(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)
لمّا اقتضت إرادة الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لابتلائه باستخلافه واستعماره في الأرض، جعله على هيئة معلومة تؤهله للاضطلاع بهذه المهمة ، فزوده بعقل تمده الحواس بالمعلومات فيستثمرها للإدراك والتمييز ، وهو في ابتلائه مسؤول أمام خالقه عما زوده به من عقل وحواس تعمل بتناغم فيما بينها . وقد أمره الله عز وجل بصيانتها من التلف ، كما وجهه إلى حسن استخدامها وفق ما يحقق له الفوز في أداء الأمانة التي قلّده إياها ، وجعله مسؤولا عنها في الآخرة بعد نهاية فترة الابتلاء في الحياة الدنيا .
ولقد امتن الله عز وجل على الإنسان بما وهبه من حواس وعقل في محكم التنزيل فقال جل شأنه : (( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون )) . ومعلوم أن ما يوجب الشكر هو الاستفادة من النعم التي يكون شكرها من خلال استعمالها فيما أراد لها المنعم سبحانه وتعالى صيانة واستخداما . ولقد جاء ترتيب هذه النعم وهي هبات بدءا بحاسة السمع، مرورا بحاسة البصر، وانتهاء بالفؤاد الذي يتلقى عنها المسموع والمرئي فيعقله وفق ما أودع فيه الخالق سبحانه وتعالى من آليات الإدراك والتمييز والتخزين . والإشارة إلى قلة شكر المنعم سبحانه وتعالى بهذه النعم الهبات في هذه الآية الكريمة تدل على سوء استخدامها الذي حدده في قوله جل شأنه : (( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا )) . والملاحظ أن هذه الآية الكريمة أنها احتفظت كسابقتها بنفس الترتيب حيث سبقت ذكر حاسة السمع ذكر حاسة البصر وتلاهما بعد ذلك ذكرالفؤاد. والملاحظ أيضا أن هذه الآية ورد فيها ذكر العلم للدلالة على أنه يحصل بتناغم بين حاستي السمع والبصر وبين الفؤاد بحيث يزودانه بالمعلومات التي يستعملها في الإدراك والتمييز . والنهي الإلهي الوارد في هذه الآية الكريمة يتعلق بالقفو، وهو مشتق من القفا الذي هو مؤخرة العنق ، ويقصد به الاتباع ذلك أن الذي يتبع يكون خلف قفا من يمشي أمامه . والمتبع يكون بالضرورة مقلدا لمن يقتفي ، وهو ما لا يضمن صواب تصرفه إذ يتوقف صواب تصرفه على صواب تصرف من يقلده . ولا يعذر المقتفي إذا ما جانب تصرفه الصواب وقد أمده خالقه سبحانه وتعالى بحواس تزود فؤاده بما يحتاجه من معلومات تهديه وتوجهه إلى صواب التصرف عوض الاتباع أو التقليد الأعمي لغيره . ولقد ذم الله تعالى تعطيل أو سوء استخدام ما أنعم به على الإنسان من سمع وبصر وفؤاد فقال : (( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )) . ولا شك أن الذي يقفو ما ليس له به علم ، وقد ورد في كتب التفسير أن ذلك هو الخاطر النفساني الذي لا دليل على صحته أو صوابه بشهادة من سمع أو بصر أو فؤاد لأنه يكون معطلا لهم .
والقفو بما لا علم للإنسان به يأخذ أشكالا مختلفة منها البهتان، و شهادة الزور، وسوء الظن، والقذف والطعن في الأنساب، والاتهام الباطل ، و الكذب والافتراء ، والرجم بالغيب والتكهن ... إلى غير ذلك ، وكل هذه غالبا ما يقع فيها الذي يقفو ما ليس له علم يقين يتوقف على إدراك الفؤاد الذي يستمد معلوماته من حواس فيميز بذلك بين المعلوم و بين المظنون و وبين الموهوم .
ومعلوم أن الذي يقفو ما ليس له به علم يقين يفتري على حواسه وعلى فؤاده ، وينسب لهم ما لم يتحقق لديهم من إدراك على وجه الحقيقة ، وهو بذلك يتحمل مسؤولية هذا الافتراء بين يدي الله عز وجل يوم الحساب إذ يحمل يومئذ حواسه على الشاهدة عليه عند سؤاله كما جاء في قوله عز وجل : (( ويوم نحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون )) .ومعلوم أن كانوا يعملون هو القفو بما ليس لهم به علم ، فكفرهم أو شركهم كان قفوا واتباعا للضلالل الذي لا يستند على حجة أو دليل أو برهان مما تسجله الأسماع والأبصار وتدركه الأفئدة ، لهذا تشهد هذه الحواس العاقلة على أصحابها بأنهم لم يعتمدوا عليها كما أمروا في توخي الحقيقة ، واعتمدوا على المظنون والموهوم وتنكبوا المعلوم .
والإنسان الذي يتعمد قفو ما ليس له به علم في حياته لا يستطيع يوم العرض على الله عز وجل أن ينكر ذلك مع وجود شهود من حواسه تشهد عليه ، ويستغرب حينئذ شهادتها فتكلمه كما جاء في قوله تعالى : (( وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون )) .
وإن الانسان ليحتاط من كل الشهود فيما يقترفه في حياته الدنيا من مخالفات، ويحاول التستر على ذلك ما أمكنه التستر إلا أنه يغفل عن شهود من نفسه لا ترقى إلى شهادتهم عليه شهادة سواهم .
حديث هذه الجمعة دعت إليه ضرورة تنبيه كثير من الناس الذي يتعمدون التورط في القفو بما ليس لهم به علم بحيث يتابعون غيرهم في الغيبة ،والبهتان، والقذف ،والتلفيق، والتزوير، والكذب، ، والتجريم ، والتخوين... بدافع عداوة أو كيد أو مصلحة أو تصفية حساب ... وإننا لنرى القفو الفاضح على سبيل المثال لا الحصر فيما تحمله تعليقات المعلقين على ما تنشره بعض المواقع الرقمية على الشبكة العنكبوتية من مقالات صارخة بالافتراءات يستهدف أصحابها من هم على خلاف معهم عقديا أو فكريا أو سياسيا أو حزبيا ... فيتابعهم في افتراءاتهم المقلدون من المعلقين مع أنهم لا علم لهم بحقيقتها ولا هم سمعوا أو رأوا وإنما قفوا وتابعوا غيرهم فيما يفتري ناسين أو متناتسين تحذير الله عز وجل من القفو بما لا علم لهم به ، وغافلين عن يوم محاسبتهم بين يديه وعليهم شهود من حواسهم أسماعا وأبصارا وأفئدة وجلودا ينطقها الذي أنطق كل شيء . وقياسا على حكم قفو هؤلاء المعلقين ينطبق نفس الحكم على كل نوع من أنواع القفو مما هو شائع فينا خصوصا التكهنات والرجم بالغيب مع حلول كل عام جديد .
ويجدر بمن كان يؤمن ويعتقد بالآخرة حق الإيمان والاعتقاد أن يضع نصب عينيه ساعة المساءلة بين يدي الله عز وجل واستنطاق حواسه الشاهدة عليه ،فيكون ذلك وازعا يمنعه من كل أشكال القفو المنهي عنها شرعا في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
اللهم بصرنا بعيوبنا ، وجنبنا كل قفو لا يرضيك ، ولا تنطق حواسنا يوم العرض عليك بما يسوءنا . اللهم إنا نبرأ إليك قبل أن نلقاك من كل قفو قفوناه غفلة منا أو سهوا سهوناه أو نسيانا نسيناه أو عمدا تعمدناه . اللهم اغفر لنا كل ذلك وتجاوزه عنا برحمتك يا أرحم الراحمين ،يا رب العالمين ، ويا قابل التوب رحمة بالمسيئين .
والحمد لله التي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 911