( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )
مما يعتقده الإنسان المؤمن تنزيه فعل الله جل جلاله عن كل باطل أو عبث أولهو ، ويترتب عن هذا الاعتقاد أنه سبحانه وتعالى خلق الكون صالحا خاليا من الفساد الذي هو من فعل الخلق . والفساد عبارة عن اختلال يحصل في شيء يكون في الأصل سلاما من العيب . وكل فساد يعتبر عيبا، وهو ما يشين ما كان صالحا .
ويصف الله عز وجل صنعه فيقول : (( صنع الله الذي أتقن كل شيء )) والإتقان إحكام وضبط وإجادة ، وهو ما يجعل الشيء المتقن بريئا مما يشينه أو يعيبه بذلك يكون صالحا ، و معلوم أن كل صالح فيه فائدة ونفع للناس .
والذي يفسد صنع الخالق المتقن هو الخلق جنّهم وإنسهم . ويحصل الإفساد من المخلق بفساد يعتريه كما أخبرنا الله تعالى في محكم التنزيل عن إبليس اللعين الذي أصابه الغرور والكبرياء بسبب الطبيعة النارية التي خلق منها ، وهو ما حمله على عصيان أمر خالقه بالسجود لآدم عليه السلام الذي خلق من طبيعة طينية . وفساد إبليس اللعين هو الذي حمله على ممارسة الإفساد ، وقد استأذن خالقه لممارسته انتقاما من آدم عليه السلام ومن ذريته ، وقد حكى الله تعالى قوله في محكم التنزيل فقال : (( قال فبعزتك لأغونهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين )) ،والإغواء عبارة عن إغراء بالفساد. ولقد تمكن من إغواء آدم عليه السلام وهو ما أشار إليه الله عز وجل بقوله : (( وعصى آدم ربه فغوى )) . وكانت غوايته عبارة عن عصيان أمر ربه سبحانه وتعالى بعدم الأكل من شجرة حرمها عليه الأكل منها. والغواية عبارة عن فساد يصيب الفطرة البشرية التي خلقها الله عز وجل سليمة منه .
وطبيعة إفساد الشيطان الرجيم لبني آدم هي إغراؤهم بتعاطي الفساد الذي هو عصيان الخالق سبحانه وتعالى مهما كانت طبيعته أو نوعه أو حجم .
وكل فساد حاصل من بني آدم يعود عليهم ضرورة بالضرر في عاجلهم وآجلهم ، وقد ذكر الله تعالى ذلك في محكم التنزيل فقال : (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) ،وظهور الفساد هو شيوعه وانتشاره ، ويكون ذلك في الأرض برها وبحرها أي في الحيز الذي يشغله بنو آدم والذي فيه يكون تصرفهم أو كسبهم أي عملهم وفعلهم ، وقد سمي عملهم أو فعلهم كسبا كأنه جني يجنونه ، وأريد بذلك ما ينتج عن سعيهم الفاسد من نتائج تعود عليهم بالضرر والخسارة.
ولقد ذهب المفسرون مذاهب في تأويل المقصود بفساد البر والبحر ، وذكروا منه بعض الأصناف ، والحقيقة أن المقصود به هو مطلق الفساد حيثما وقع سواء كان ماديا أم معنويا ،ومهما كان نوعه . وليس المقصود بالفساد في الآية الكريمة مجرد ما ذهب إليه بعض المفسرين ، وإن كان ما ذهبوا إليه صحيحا بل هو كل فساد فيهما يترتب عن سعي الناس غير الموفق والذي يكون عبارة عن إخلال بالسنن الكونية التي وضعها الله عز وجل ليتحقق صلاح الأرض برّها وبحرها .
ومن أسباب الفساد الذي يظهر في البر والبحر كفر الناس بربهم أو شركهم به أو عصيانهم أوامره ، وعن كفر وشرك وعصيانهم وهو عبارة عن انحراف يعتري فطرتهم التي فطرهم الله عز وجل عليها وجعلها سوية وصالحة . ومن صلاح الفطرة أن يؤمن الناس بخالقهم ربا وإلها ، ولا يشركوا به شيئا في ألوهيته وربوبيته ، وألا يعصوا له أمرا ,
و يترتب عن فساد الفطرة البشرية أنواع لا حصر لها من الفساد في الأرض تعود بالضرر على الناس حيث يجنون ما كسبت أيديهم من إفساد فيها ، ويكون ذلك جزاء مقدما لهم في دنياهم ، يتلوه جزاء مؤجل يكون في أخراهم .
ولقد تحدث الله عز وجل عن الجزاء المقدم في الدنيا بسبب ما يصدر عن الناس من فساد بكل أنواعه وأشكاله ويكون عبارة عن إنزال عقوبة بهم بسبب فسادهم وإفسادهم تنبيها لهم عسى أن يقلعوا عن ذلك ، وهي في نفس الوقت ودليل يقيمه سبحانه وتعالى على فسادهم وإفسادهم فلا يجنون إلا مثل ما كسبوا يجنون ، وتكون النتيجة عبارة عن اختلالات تحل بحيزهم الذي يوجدون به وقد خلقه الله تعالى صالحا لهم فيه منافع ومصالح .
فالقحط والمجاعة والوباء والحروب ... كل ذلك ينتج عمّا كسبت أيدي الناس من فساد وإفساد .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو غلبة حديث الناس في غالب الأحيان عن شيوع الفساد بشتى الأنواع في بيئتهم دون الانتباه إلى دورهم المباشر في شيوعه ، وقد يحمل بعضهم البعض المسؤولية في ذلك علما بأن هذه المسؤولية مشتركة بينهم كل حسب حجم أو قدر فساده وإفساده . ولا يمكن إعفاء الساكت منهم عن الفساد والإفساد من نصيبه من تلك المسؤولية . وقد ورد عن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها غضبان وهو يقول : " ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج ، وحلّق بين إصبعيه السباحة والوسطى " ، فقالت : " يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ " فقال : " نعم إذا كثر الخبث " . والخبث كل مستقبح ، ويكون بالضرورة مترتبا عن فساد وإفساد صادر عن الناس يجلب لهم شرا وتهلكة .
وما يغيب غالبا عن أذهان الناس ولا يبالون به هو عدم التفكير في الرجوع إلى طاعة خالقهم بتوقفهم عن الفساد والإفساد في بيئتهم كي يرفع الله سبحانه وتعالى عنهم ما ينتج عن فسادهم وإفسادهم من شر وتهلكة . وأقبح من ذلك أن يصر بعض الناس على إنكار وجود صلة بين فساد وإفساد الناس وبين ما يحل بهم من شر وتهلكة بل ويسخرون مما يقول بهذا مع أنه لا يذكر إلا ما جاء في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بعيوبنا ، وأن تصرف نفوسنا عن الفساد والإفساد ، وأن تجعل الإنابة والرجوع إليك دأبنا إذا ما حل بنا سوء بسبب ما كسبت أيدينا .
اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا ، اللهم إنا نعوذ بك الشر الذي حذر منه رسولك عليه الصلاة والسلام ، ونعوذ بك من شيوع الخبث فينا . اللهم اجعل كفة الصلاح فينا ترجح بكفة الفساد ، واجعل اللهم مخافتك عندنا فوق الخوف من غيرك ، وارزقنا التقوى في القول والعمل ، وارفع اللهم عنا بلاء هذا الوباء الذي لم بنفع معه دواء ، ولا تبتلينا بما لا طاقة لنا به يا أرحم الراحمين ، ويا رب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 914