( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )
من المعلوم أن كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتضمنان صفات كثيرة للمؤمنين إذا ما جمعت كانت معبرة عن هويتهم الإيمانية التي خصهم بها خالقهم سبحانه وتعالى وبها يعرفون ، وبها يتميزون عن غيرهم من خلقه ، وبها تتحقق وسطيتهم ، وخيريتهم ، وشهادتهم على الناس أجمعين .
وهذه الصفات هي المقياس الذي يجب على كل مؤمن أن يعرض نفسه عليه ليتحقق من حقيقة إيمانه على الوجه المطلوب . وما لم تتوفر فيه هذه الصفات وجب عليه مراجعة إيمانه ، وذلك من خلال تجنب مجاراة نفسه وهي تخدعه بأنه من المؤمنين مع أنه على غير صفاتهم .
ومن الصفات التي وصف بها الله عز وجل عباده المؤمنين صفة الذلة وصفة العزة، وهما صفتان على طرفي نقيض قد يستغرب الإنسان من اجتماعهما في شخص واحد إذ كيف يمكن أن يذلّ وهو عزيز أو يعزّ وهو ذليل، لكن الله عز وجل بيّن ذلك في محكم التنزيل، فقال سبحانه وتعالى وقوله الحق : (( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين )) . أما حقيقة ذلتهم، فهي ليست الذلة المعروفة بالهوان، والحقارة ، وانحطاط الشأن، والضعف بل هي عبارة عن تواضع ،ولين ورقة جانب ، وتوطئة كنف، وشدة رحمة ، وكامل الاستعداد للبذل والعطاء والتضحية مع نكران الذات ... وهي نفس الذلة التي أمر بها الله تعالى للوالدين في قوله عز من قائل : (( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )) ،وهذا التعبير القرآني الرفيع من نوع الاستعارة المكنية حيث استعير الطائر ذو الجناح للذل، لكنه لم يذكر ،وناب عن ذكره جناحه، وهو لازم من لوازمه ، وهذه الاستعارة من النوع التخييلي ،لأن الذل لا جناح له، لهذا كان تشبيهه بالطائر مجرد تخيّل ، ومع ذلك يوجد لهذا التخيّل ما يبرره ذلك أن الطائر يعزّ وهو يطير بجناحيه ، فإذا ما عجز عن الطيران بهما ذلّ ، ولهذا اختار الله تعالى هذه الصورة المعبرة بدقة للتعبير عن المطلوب من البر بالوالدين بحيث يبدو البررة بهما ،وهم في أقصى درجات الرحمة بهما كطيور تخفض أجنحتها ، فتبدوا وكأنها لا تقوى على الطيران الذي هو دأبها وعادتها والذي به تعزّ ، وبدونه تذلّ .
وليس في هذا النواع من الذلة سواء تعلق الأمر بالوالدين أم بالمؤمنين منقصة بل هي رفعة شأن، و علو قدر، وكمال عزة ، وتمام شرف . ولا تبدو هذه الذلة منقصة إلا عند من قصر فهمهم ،وقل علمهم، وتعطل إدراكهم ، وانحط ذوقهم.
وتذلل المؤمنين لبعضهم البعض له أوجه نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإيثار الذي لا أثر فيه لأثرة بحيث يؤثر كل واحد منهم غيره على نفسه في كل شيء ، ولا تحدثه نفسه أبدا بأن تكون مقدمة عنده على نفس غيره في حال من الأحوال أو شأن من الشؤون أو أمر من الأمور ، ولا يبادر بشيء ترغب فيه نفسه وتتعلق به إلا آثار غيره عليها ، ويكون بذلك مكرها لنفسه على التنازل لغيرها على ما ترغب فيه مما صغر أو عظم من الأمور. وما لم تكره النفس على هذا التنازل ،فلا ذلة مما جاء في وصف المؤمنين في كتاب الله عز وجل ، مهما ادعى مدع شيئا منها أو تظاهر به تزكية لنفسه مخادعا لها ولغيره.
والمؤمن الذليل على المؤمنين لا يمكن أن يقدم نفسه عليهم في شيء مهما كان بل يعتقد أنهم يتقدمونه في كل شيء ، وأنهم أولى بالتقدم منه في ذلك .
وليس من السهل ولا من اليسير أن يطوع الإنسان نفسه الأنانية على هذه الصفة العظيمة التي هي من صفة من يحبون الله عز وجل ويحبهم سبحانه وتعالى كما جاء في قوله السابق لذكر صفة الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين .
وأما حقيقة عزة المؤمنين على الكافرين ، فهي عزة الإيمان لقول الله تعالى : (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين )) ،فهي عزة طبع لا عزة تطبّع ، ذلك أن الداخل إلى حظيرة الإيمان عزيز بالضرورة . ومن عزة الإيمان ألا يرضى المؤمن بالدنية في دينه أمام كافر ، وفي الأمثال قولهم : " المنية ولا الدنية ". والدنية عبارة عن شعور بالنقص أمام الكافر ، واعتقاد بعلو شأنه ، وتفوقه . والمؤمن العزيز على الكافر لا يخامره شك في عزته عليه بإيمانه مقابل كفره.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما يلحظ في أيامنا هذه من اختلال صفة الذلة والعزة عن كثير من المنتسبين إلى الإيمان أو المحسوبين عليه ، ذلك أنهم يذلّون حيث يجب أن يعزّوا ، ويعزّون حيث يجب أن يذلّوا ، فهم على إخوانهم المؤمنين أعزة ، وعلى الكافرين أذلة ، فلا يتحدثون عن الكفار إلا حديث الإعجاب والإكبار والتقدير ،و في مقابل ذلك لا يتحدثون عن المؤمنين إلا حديث الاحتقار والإهانة والسخرية والاستهزاء والتنقيص من شأنهم . فكم من الفيديوهات المتداولة عبر الوسائط الرقمية تقارن أحوال الكافرين بأحوال المؤمنين ،فترفع من شأن الكافرين بانبهار بينما تضع من شأن المؤمنين باحتقار ، وهو ما لا يفعله الكافرون مع بعضهم البعض في حين يفعله المؤمنون مع بعضهم البعض مع شديد الأسف والحسرة .
ولقد كثرت مؤخرا أحاديث الإعجاب الشديد بالكفار مقابل أحاديث الحط من شأن المؤمنين خلافا لإرادة الله عز وجل ولإرادة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولإرادة المؤمنين وهي من إرادته سبحانه وتعالى ، ومن إرادة رسوله عليه الصلاة والسلام .
وإن المؤمن في هذا الزمان ليلقى من أخيه المؤمن الجفاء والاحتقار والإهانة ما يفوق جفاء واحتقار وإهانة الكافر له ، ومع ذلك لا يتردد الجافي والمحتقر والمهين أخاه المؤمن في التبجح بالإيمان وبالانتماء إلى حظيرته ، مع سلوكه مع أخيه المؤمن يكذبه .
فأين مؤمنو هذا الزمان من الذلة التي أرادها الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم منهم فيما بينهم ؟ وأين العزة التي أريدت منهم مع الكافرين ؟
ولقد قضى الله تعالى أنه حين تغيب الذلة بين المؤمنين فيما بينهم ، وتغيب عزتهم على الكافرين ،يأتي حتما بغيرهم مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) .
اللهم ارزقنا حبك سبحانه وأحببنا ، وارزقنا حب رسولك عليه الصلاة والسلام ، واجعلنا ممن أحبهم ، وارزقنا حب المؤمنين . اللهم اجعلنا من أولئك القوم الذين قلت فيهم قولك الكريم هذا ، واجعلنا أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ، وارزقنا جهادا في سبيلك يرضيك وترضى به عنا ، ولا تجعلنا نخاف لومة لائم ، وأسبغ علينا من فضلك يا واسع الفضل .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 916