( سأصرف عن آياتي الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق)
من أجلّ نعم الله عز وجل على خلقه نعمة الهداية ، وهي نعمة لا يصح أن يدعيها أحد مهما كان لنفسه إن هي أدركته من عند المنعم سبحانه وتعالى فيزعم أنه نالها بإرادته وبسعي منه . ولقد حسم الله تعالى في محكم التنزيل أمر هذه النعمة مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل : (( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء )) .ولو كان لبشر يد في هداية الخلق، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بذلك من غيره ،ومع ذلك استأثر رب العزة جل جلاله بهداية خلقه دون غيره.
والله تعالى أعلم حيث يجعل الهداية تماما كما كان سبحانه عالما حيث يجعل الرسالة مصداقا لقوله عز وجل : (( الله أعلم حيث يجعل رسالاته )) . وإذا أراد سبحانه وتعالى أن يتفضل بنعمة الهداية على أحد من خلقه، هيأ له الأسباب لبلوغها ،أما إذا منعها عن أحد، فإنه يصرفها عنه بصرفه عن أسباب بلوغها .
ولقد جعل الله تعالى أسباب الهداية في تنبيه الخلق إلى آياته التي هي أدلة عليه ، وهي إما ماثلة في سفره المشهود أو مبيّنة في سفره المخطوط .
والخلق ممن شملتهم نعمة الهداية غالبا ما يخبرون غيرهم كيف هيأ لهم الله عز وجل أسبابها إما عن طريق آيات السفر المشهود أو عن طريق آيات السفر المخطوط ، وهذا الأخير يحيل آياته على آيات الأول التي هي تأكيد لها .
والخلق غير المشمول بنعمة الهداية يصرفه الله تعالى عن آياته مصداقا لقوله عز من قائل : (( سأصرف عن آياتي الذين يستكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين )).
ففي هذا النص القرآني يبين الله عز وجل الصنف من خلقه الذي يصرفه عن آياته ، و يبين أحوالهم مع الرشد والغي ، ويكشف عن تكذيبهم بآياته وعن غفلتهم عنها.
ومعلوم أن من معاني الصرف لغة الإبعاد ، وهو في قوله تعالى (( سأصرف عن آياتي الذين يستكبرون في الآرض بغير الحق )) عبارة عن حيلولة بينهم وبين استيعاب آيات الكون وآيات الذكر المفضية كلها إلى نعمة الهداية . والصنف المصروف عن آيات الله عز وجل هو صنف المستكبرين في الأرض بغير الحق. والاستكبار أو التكبر هو التعاظم والتعالي والتجبر والامتناع عن الانصياع والإذعان للحق ، وعليه فالاستكبار انصراف عن الحق مع الوعي به والإصرار على ذلك . ومن لا ينصاع للحق يفعل ذلك بدافع الانصياع لنقيضه وهو الباطل . ولما كان الحق الذي ينتفي بوجوده الباطل هو الأصل فيما جعل الله عز وجل من آيات ، فإن المعرضين عن الحق المتجلي فيما جعل سبحانه وتعالى يصرفون عن الاهتداء إليه ،علما بأنه يطلب بالتأمل في تلك الآياته. ومما يؤكد ذلك شهادة المتأملين في آيات الله عز وجل والتي سجلها القرآن الكريم في قوله تعالى : (( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار )) ،إن هؤلاء حين يتفكرون في آيات السفر المشهود يدركون انتفاء الباطل عما خلق الله عز وجل . أما من صرفوا عن آياته سواء في السفر المشهود أو في السفر المخطوط، فإنهم لا يدركون ذلك ، وهم مصرون على الباطل بسبب تعاليهم على الحق المتجسد في تلك الآيات الناطقة والشاهدة والدالة . ومعلوم أن نشدان الحق يتحقق من خلال الإقرار بنسبة تلك الآيات إلى الخالق سبحانه وتعالى، بينما إنكار ذلك أو نسبتها إلى غيره هو ميل مع الباطل. ومن الكبرياء الميل مع الباطل في القول بوجود آيات السفر المشهود صدفة ودون مسبب أوجحود نسبتها إلى الخالق جل في علاه ،فضلا عن إنكار آيات السفر المخطوط والإعراض عنها مع أنها دالة عليها .
والمصروفون عن آيات الله عز وجل في الكون لا يؤمنون بها مع رؤيتهم لها رؤية يقين ،وهم بذلك يتنكبون سبيل الرشد وهو سبيل الاهتداء إلى الحق ، ويتخذون بديلا عنه سبيل الغي وهو سبيل الضلال عن الحق والميل إلى الباطل، والذين يجعلهم على هذه الحال هو التكذيب بالآيات والغفلة عنها كما جاء في قوله تعالى : (( ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين )) ،وبذلك استحقوا أن يصرفوا عنها ،ويحرموا نعمة الهداية .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو التنبيه إلى دعوة بعض الجهات وبعض الأفراد إلى سبل الغي مع الدعاية لها ، والقصد هو التحذير من ذلك . وطريقة هؤلاء في دعوتهم ودعايتهم تلك تعتمد أسلوب توزيع المهام فيما بينهم ،وكلها مهام تفضي إلى سبل الغي، ذلك أن منهم من ينبري إلى نسبة وجود آيات السفر المشهود إلى الصدفة مع الزعم الباطل بإشهاد العلم على ذلك ،وهؤلاء أخطر على من يسهل انبهارهم بهذا الزعم ، والذين لا يتحرون ما يصح من نظريات علميا وما لا يصح منها .
ومقابل المشككين في نسبة آيات السفر المشهود إلى الخالق سبحانه وتعالى، يتفرغ فريق آخر للتشكيك في آيات السفر المخطوط التي تحيل على آيات السفر المشهود، وذلك للحيلولة دون اهتداء الناس بواسطة آيات المخطوط إلى آيات المشهود . وهؤلاء تتعدد وتتنوع أساليب تضليلهم للناس ، ذلك أن منهم من يعتمد التشكيك في الأئمة رواة الأحاديث النبوية قصد الوصول بعد ذلك إلى التشكيك فيها ، وتمهيدا للتشكيك في الذكر الحكيم نفسه في نهاية المطاف . ومنهم من يستهدف لغة الذكر الحكيم حاطا من قدرها ناسبا لها ما ليس فيها من عيب بغرض الصد عنها لأن معرفتها حق المعرفة هي المفتاح إلى معرفة آيات السفر المخطوط الذي يحيل على آيات السفر المشهود، وبذلك تكون الاستقامة على سبيل الرشد وتنكب سبيل الغي . ومنهم من يسوق كل أنواع الغي من خلال الدعوة إلى الفواحش الصارخة التي صارت تزين من خلال تغيير أسمائها تمويها على فحشها كما هو الشأن بالنسبة لفاحشة الزنى التي صارت تنعت بالعلاقة الرضائية ، وفاحشة قوم لوط التي صارت تنعت بالمثلية ... إلى غير ذلك من الأمور المستقبحة والمنهي عنها في الذكر الحكيم والتي يسوق لها اليوم في مجتمعنا بشكل غير مسبوق . وهناك آخرون لا يدخرون جهدا في الدعوة إلى سبل أخرى للغي بأنواعه المختلفة إما تصريحا أو تلميحا ، والكل يشكل جبهة واحدة متراصة ومتواطئة على إشاعة الفساد والإفساد .
ويتعين والحالة هذه على أمتنا أن تحذر و تتنبه إلى ما يحاك ضدها من مؤامرات ماكرة في منتهى الخبث تحت مسميات من قبيل حرية الرأي، وحرية التعبير، ومسايرة ما يسمى بالقيم الحضارية ،واعتماد القوانين المتعارف عليها دوليا ، وهي في الحقيقة قوانين مجتمعات علمانية صرفة ... وما شاكل ذلك من الشعارات المضللة لكل من في تدينه ضعف أو تذبذب ،و فيه استعداد لسلوك سبل الغي .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكون ممن صرفتهم عن آياتك ، ونبرأ إليك ممن يتخذون سبيل الغي سبيلا ، واجعل اللهم سبيل الرشد لنا سبيلا ، وزدنا اللهم تصديقا بآياتك ، ولا تجعلنا من الغافلين عنها .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 918