(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)
وجيز التفسير :
في آيات وجيزات دالات افتتح ربنا تبارك وتعالى سورة "المؤمنون" يصفهم لنا ويجليهم أمام أعيننا ، فكان الإعراض عن اللغو الوصف الثاني من أوصافهم .
واللغو في لغة العرب كما أورد الراغب الأصفهاني في معجمه عن " مفردات القرآن "
اللغو: من الكلام ما لا يعتد به. وهو الذي يُورد لا عن رويّة وفكر ، فيجري مجرى " اللغا" ، واللغا صوت العصافير ونحوها من الطيور .
يقول الأصفهاني : وقد يسمى كل قبيح لغوا ...
يعمم ابن عطية في تفسيره أكثر فيقول : اللغو سقْط القول . وهذا يعم كل ما لا خير فيه. وما لاخير فيه قد يكون شركا أو إثما أو فحشا أو دعوة إلى قطيعة، وقد يكون مثل زقزقة العصافير ، وعرير أو صرير الصراصير . هذر، وهرف، وقيلٌ وقالٌ ، ولت وعجن .. وقديما قال الأول واستشهد به الزمخشري في أساس البلاغة :
وبعض القول ليس له عناج ..كمخض الماء ليس له إتاء
والعناج الفائدة والجدوى . ومخض الماء ، وضعه في الشكوة مكان اللبن، على أمل الحصول على الزبد . يقول : وطلب الثمرة من بغض القول، كطلب الزبد من مخض الماء!!
وقد ورد لفظ " اللغو " بمشتقاته في القرآن الكريم في نحو عشرة مواضع ، كلها في سياق " سلبي" يقتضي التحذير من اللغو ، والتنفير من الاتصاف به ، ومنها نفيٌ لملابسة اللغو للحياة المكرمين في نعيمهم المقيم . ومنها إلحاق اللغو بالكفار ، الذين كانوا يتواصون بالاستمرار في اللغو بآيات القرآن الكريم ..
فمن الأول التحذير من اللغو قوله تعالى ..
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
وقوله في سورة الفرقان في وصف عباد الرحمن ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا )
ومنها في سورة القصص ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ )
أما قوله تعالى ( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )، فليس المقصود منه إباحة اللغو ، ولا إباحة اليمين اللاغية ، بل المقصود رفع الإثم والحرج عن أسلوب ما زال الناس يتتايعون فيه .. و في رفع الإثم والحرج دعوة مبطنة إلى التأثم والتحرج .. وكذا قوله تعالى في أكثر من سياق قرآني ( إِلاَّ اللَّمَمَ ) لا يقتضي الدعوة إلى اللمم، والتشجيع عليه ، وإنما هو دلالة على أنه مخالفة وإثم يغفره الله بعفوه ..
ومن النوع الثاني - نفي اللغو عن حياة المكرمين - أنه تبارك وتعالى نفى اللغو والتأثيم عن حال أهل الجنة وحديثهم ، في العديد من الآيات أيضا
فهم (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلامًا) ... مريم ، و (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلاَّ قِيلاً سَلامًا سَلامًا ) ... الواقعة ، و ( لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا ) النبأ . وحتى الكأس الذي يكثر هذر شاربيها ، فإن كأس أهل الجنة ( لا فِيهَا غَوْلٌ ) وشاربوها ( يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لّا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ).
والسياق الثالث الذي ورد فيه مشتق اللغو في القرآن الكريم ، وورد اللفظ في صيغة فعل الأمر الجماعي ، هو أمر الكفار بعضهم ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ومن اللغو في القرآن الكريم ، الجرأة على القول فيه في الباطل ..
إن من معاني اللغو الخوض بالباطل ، ومن اللغو أن يتكلم الإنسان - ولفظ الإنسان يشمل الرجل والمرأة معا - في أمور الدين والعقيدة والفقه والحلال والحرام ، من غير علم ، وأن يخوض الإنسان مع الخائضين في أحاديث الفحش والبذاءة ، وأن يسترسل الإنسان في الأحاديث لا معنى لها ، ولا فائدة ترجى منها ، بل إن من اللغو أن يحدث المرء بالحديث في غير مكانه، ولا موضع استحقاقه، فينبو حديثه عن الواقع، وعن حكمة المقام ، وعن وصف البلاغة التي قيل في تعريفها : مطابقة الكلام لمقتضى الحال .. الحال العام ، ما تعيشه الأمة، وما يعيشه المجتمع من أخطار وأهوال ومصائب ومحن وإحن .. لغو كل هذا الذي نسمع عن ....
اللغو : هو الكلام الهذر ، ينثره الإنسان نثر الدقل ، فيشغل به نفسه، ويشغل به الناس من حوله ..
ومفهوم الإعراض عن اللغو الذي أمر به القرآن الكريم، أن المرء لا يلغو ، ولا يجالس من لغا ، ولا يكثر سواد " اللغاة " ، وهذه هي التي تصفر منها الأنامل...
وسوم: العدد 920