( كل امرىء بما كسب رهين )
من المعلوم أن الله عز وجل كتب على بني آدم الابتلاء في الحياة الدنيا والذي يعقبه حساب وجزاء ومصير في الآخرة يكون إما جنة أو جحيما . ومدار الابتلاء في الحياة الدنيا سماه الله تعالى في القرآن الكريم بأسماء عدة منها العمل ،والسعي والكسب ... مصداقا لقوله تعالى : (( ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا )) وقوله : (( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها )) ، وقوله أيضا : (( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )).
والمقصود بالعمل أو السعي أو الكسب كل ما يصدر عن الإنسان عندما يبلغ سن التكليف، ويدخل تحته كل ما يتلفظ به من قول ، و كل ما يقوم به من فعل، وفي ذلك يكون الابتلاء .
وفي سياق حديث الله عز وجل في سورة الطور عن جزاء عباده المؤمنين الذي منه إلحاق ذرياتهم بهم في الجنة ، وهو فضل منه يتفضل به سبحانه وتعالى ، ولا يجب أن يفهم منه أنه يحصل بإعطاء الآباء من حسناتهم لذرياتهم قياسا على ما هو متعارف عليه بينهم في الدنيا من إعطاء الآباء أبناءهم من عرضها الزائل ، جاء قوله تعالى : (( كل امرىء بما كسب رهين )) للدلالة على أن كل إنسان يكون حبيس سعيه الذي سعاه في دنياه بحيث لا يحسب شيء من ذلك لغيره خيره أو شره ، وهو ما يؤكده قول الله تعالى : (( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى )). وهذا ينفي أن يكون إلحاق الذريات بآبائهم في الجنة بسبب سعي هؤلاء دون سعي أولئك، وإنما كلهم رهائن بما كسبوا. وعندما يكون سعي هؤلاء وأولئك محمودا يتفضل المولى سبحانه وتعالى منة منه بإلحاقهم بعضهم ببعض في الجنة على ما سيكون بينهم من تفاوت في الأجور حسب كسبهم في دنياهم .
وتعبير القرآن الكريم في قوله تعالى : (( كل امرىء بما كسب رهين )) عن سعي الإنسان في الحياة الدنيا بالكسب يدل على مسؤوليته لأن الكسب عبارة عما يحصله الإنسان عن وعي منه وبإرادته قصد الانتفاع به ، لهذا يكون رهينا به وقد أعطي الحرية الكاملة في كسبه .
والأكياس العقلاء من الناس هم من يحسنون طلب كسب ما ينفعهم في آجلهم تماما كما يفعلون ذلك في عاجلهم إذ يحتاطون من كسب ما لا نفع يرجى منه حسب تقديرهم مع العلم أن تقدير النفع في الدنيا يختلف عن تقدير النفع في الآخرة، ذلك أن ما قد يظن نفعا في الدنيا يكون عبارة عن خسارة في الآخرة ، والأمثلة على ذلك كثيرة في واقع الناس كأن يرغب الواحد منهم فيما يظنه نفعا وهو من كسب غير مشروع كما هو الحال في الميسر على سبيل المثال لا الحصر .
ومن التهور أن يستخف الإنسان بكونه رهين كسبه في الآخرة ، فلا يلقي بالا لما قد يترتب عنه من خسارة وهلاك ذلك أن مجرد كلمة قد يتلفظ بها في دنياه دون أن يعيرها أدنى اهتمام من شأنها أن تورده المهالك كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يزلّ بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " . وإذا كان هذا شأن الكلمة فما بال الفعلة ؟
ويكفي أن يستوعب الإنسان طبيعة المكيال الذي يكال به سعيه يوم القيامة ليحتاط في كسبه دون أن يستخف بشيء منه ، إنه مكيال قوامه وزن أو مثقال الذرة التي يمثل بها لأقل الأشياء وزنا . ومعلوم أن الذي يوقع الإنسان في سوء تقدير كسبه هو الاستخفاف بما يظنه هيّنا وهو عند الله عز وجل عظيم . وبناء على هذا وجب على الإنسان أن يبذل قصارى جهوده من الاحتياط في تقدير كسبه سواء كان قولا أو فعلا كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين سئل عن قول الله تعالى : (( وفاكهة وأبا )) فقال : " أي سماء تظلني أو أي أرض تقلّني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ " .
حديث هذه الجمعة دعت إليه الضرورة لما صار عليه الناس في زماننا من استخفاف بكسبهم فيما يقولون وفيما يفعلون مع غفلتهم عن كونهم رهائنه يوم القيامة . أما أقوالهم فحدث عما فيها من مهالك ولا حرج خصوصا بالنسبة لأولئك الذين يطلقون العنان لألسنتهم بالتقول كذبا على كتاب الله عز وجل وعلى حديث رسوله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ الأمر بمن سفهوا أنفسهم منهم حد الزعم أنهم قد نفضوا أيدهم من تسفيه الحديث الشريف ، وأنهم قد انتقلوا بعد ذلك إلى القرآن الكريم يقولون فيه بأهوائهم دون أن يستوعبوا شيئا من مقولة الصديق رضي الله عنه . وفضلا عن التجاسر بمنكر القول على كلام الله عز وجل و على كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلاهما وحي، يخوض أولئك بسفههم في أعراض الصحابة رضوان الله عليهم ،و في أعراض أئمة الحديث، وأعراض أهل العلم والفضل والصلاح أما أعراض عامة الناس فيستبيحونها شر استباح خصوصا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على أوسع نطاق ، وقد صار ذلك كالوباء المعدي بينهم ينقله بعضهم إلى بعض ، ويتنافسونه بحيث لا يكاد الواحد منهم يتوصل بسوء كسب يتلقاه من غيره عبر هاتفه الخلوي وهو يتعلق بنهش عرض من الأعراض حتى يبادر بنشره على أوسع نطاق بل يدعو غيره إلى أن يحذو حذوه في ذلك غافلا عن حمل وزره ووزر ما جاراه في سوء كسبه.
وقد يقع بعض الناس في سوء كسبهم عن جهل سببه سذاجتهم كأن يتلقى الواحد على سبيل المثال حديثا موضوعا منسوبا كذبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيروجه عبر هاتفه أو عبر حسابه الرقمي على الشبكة العنكبوتية ملتمسا من غيره نشره ليصير متداولا على أوسع نطاق ،وهولا يبالي بأنه قد حجز له مقعدا في نار جهنم جزاء كسبه هذا ،وقد كان من المفروض أن يتحرى صحة ما يروج ويسوق منتبها إلى تحذير الله عز وجل مما يأتي به فسّاق الناس من أنباء تقتضي التبيّن لما قد يترتب عنها من إضرار بالأغيار ، ومنتبها أيضا إلى تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء فيه : " كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع ".
ولم يعد الناس اليوم يكتفون بآفة الاغتياب الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تخطوها إلى آفة البهتان ، وساروا في ذلك أشواطا بعيدة غير مسبوقة وقد شجعهم على ذلك ما أتيح لهم من انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تستعمل مع شديد الأسف لشر الكسب دون خيره .
ومما يجدر التذكير به في هذا المقام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المفلس من أمته والذي قال فيه : " إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، فيعطي هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار "
وإن الناس اليوم ليقعون في هذا النوع من الإفلاس عن طريق استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في القذف والاغتياب والبهتان والسخرية من بعضهم البعض ... ، وهو ما قد يفني وحده دون غيره من الآثام ما يكون بحوزتهم من حسنات يوم القيامة قبل أن يقضى ما عليهم فتطرح عليهم خطايا من كانوا ضحايا قذفهم أو اغتيابهم أو بهتانهم أو سخريتهم ثم يطرحون في النار والعياذ بالله .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نكون رهائن كسب يردينا في الآخرة ، وبصرنا اللهم بعيوبنا ، ونعوذ بك سبحانك من الغفلة عنها أو من الإصرار عليها بعد أن تبصرنا بها .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 920