( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )
مما وصف به الله عز وجل رسالته الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهي للناس اجمعين وسارية المفعول إلى قيام الساعة لا ينافسها في ما شرع فيها غيرها من الرسالات السابقة أو مما يشرّعه الناس وفق أهوائهم قوله سبحانه وتعالى : (( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )) ،والأقوم هو ما كان أكثر عدلا وصوابا ، واسم الموصول " التي " ّ في الآية يدل على كل ما يتعلق بحياة الإنسان من أقوال أو أفعال ، كما أن فعل "يهدي" يدل على الإرشاد الموفق.
وحين تجتمع ألفاظ هذه الآية الكريمة بعد ذكر القرآن الكريم مسبوقا فإن ذلك يعني أن كلام الله عز وجل قطعا منزه عن الباطل ولا يحق لمؤمن أن يخامره شك في ذلك أو تحدثه نفسه بالتماس الأقوم في غيره مهما كان وذلك من شروط صحة إيمانه .
ومدار هداية القرآن الكريم للتي هي أقوم هو ما ورد فيه من أوامر ونواه إلهية تهدي إلى الأقوم من الأقوال والأفعال ائتمارا وانتهاء .
و معلوم أن الله تعالى لا يميز في محكم التنزيل بين قول أو فعل إذا ما أمر أو نهى، فهما سيّان في الأمر والنهي، و ما يترتب عنهما معا من خير أو شر يكون سواء . وعند التأمل نجد بينهما علاقة جدلية قوامها التأثر والتأثير إذ يقتضي حضور الواحد منهما حضور الآخر، وقد تكون دلالتهما واحدة لهذا يقال دعوة بلسان المقال و دعوة بلسان الحال حيث يؤدي القول ما يؤديه الفعل أو يجتمعان في أدائه .
ومن هداية القرآن الكريم للتي هي أقوم أمر الله تعالى بما يحقق صواب وعدل الأقوال ،وذلك في قوله سبحانه : (( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )) . والأقوم المتحقق في القول إنما يحصل بالعدل فيه . وقد ورد في بعض كتب التفسير أن هذا الأمر الإلهي يتعلق بكل المعاملات التي تكون باللسان بين الناس من قضاء وشهادة، وتعديل أوتجريح ، وصلح، ونصح ، وإخبار ، ووصف ... والعدل في القول إنما يتحقق بتوخي الحق الذي ينتفي معه الجور . ومن أمثلة الجور في القول على سبيل المثال لا الحصر نسبة العيب للمبيعات السليمة ، أو العكس وهو كتمان عيوب الفاسد منها ، والكذب في أثمانها ، ومنها أيضا تجاوز الصدق في تجريح الناس أوتعديلهم و المدح الباطل أوالذم الباطل ...إلى غير ذلك من أنواع الجور الحاصل في الأقوال والذي يترتب عنه جور في الأفعال أو في المعاملات .
وحرصا على أمر الله تعالى بالعدل في الأقوال لخطورة ما يترتب عنها ، فقد رفع من سقفه بقوله تعالى : (( ولو كان ذا قربى )) لأن علاقة القرابة تحكمها عاطفة قوية تجعل الأقرباء يتغاضى بعضهم عن جور البعض حين يقع على الأغيار تعصبا لهم أو مجاملة . وبأمره سبحانه وتعالى بالعدل في القول حين يتعلق الأمر بذوي القربى ، وهي أقوى علاقة على الإطلاق بحيث لا توجد علاقة تفوقها قوة ومتانة ، فإن الأمر بالعدل في القول يلزم بالضرورة باقي العلاقات مهما كانت لأنها مهما بلغت درجتها من القوة والمتانة ، فإنها تكون دون قوة ومتانة علاقة القرابة التي يصعب معها العدل في القول ، ومثال ذلك أن يعدل الوالد أو الولد في قولهما حين يتعلق الأمر بشهادة أحدهما في الآخر بسبب جور قد يرتكبانه في حق غيرهما .وإذا كان الوالد والولد مأمورين بالعدل في القول حين يتعلق الأمر بهما ،فالأولى أن يكون العدل في القول بين سواهما ممن لا علاقة تربطهما أو تربطهما أنواع أخرى من العلاقات غير الرحمية من صداقة أو جوار أو عمل أو وظيفة أو أستاذية أو تتلمذ أو رئاسة أو مرءوسية ...أو غير ذلك من العلاقات مهما كانت . وإن من أنواع هذه العلاقات ما يشق فيها على الناس التزام العدل في القول إما بسبب خوف أو مصلحة ... أو غير ذلك . ولم يستثن الله عز وجل من العدل في القول حين يتعلق الأمر بالشهادة عدل الإنسان في شهادته على نفسه حيث قال سبحانه وتعالى : (( كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين )). وإذا كان الإنسان ملزما في شرع الله عز وجل بالعدل في القول حين يتعلق الأمر بنفسه، فأولى أن يعدل في القول حين يتعلق الأمر بغيره بدءا بالوالدين والأقارب ،وانتهاء بالأباعد وكل سواء لا تفاضل بينهم يكون على أساس وجود علاقات بينهم أو عدم وجودها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما صار عليه معظم الناس في زماننا هذا من مخالفة أمر الله تعالى بالعدل في القول ،الشيء الذي أشاع الجور بينهم بسبب تعطيل هذا الأمر الإلهي الذي بالحرص على تنفيذه تستقيم علاقاتهم ومعاملاتهم وباستقامتها تستقيم حياتهم الدنيا ويفوزون بالسعادة الأبدية في الآخرة.
والأمثلة من واقعنا على تعطيل أمر الله تعالى بالعدل في القول كثيرة يطول الحديث عنها ،ويكفي عوضا عن تعدادها أن يسأل كل إنسان نفسه عنه مدى تطبيقه في حياته لقول الله تعالى : (( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )) وذلك لقياس مدى طاعته لهذا الأمر الإلهي الخطير . فهل نحن نعدل حقا في القول مع أنفسنا أولا ومع الوالدين والأقربين والعشيرة ومع الأصدقاء والمعارف والجيران والزملاء في العمل أو الوظيفة ،ومع الرؤساء ، والمرءوسين ،و والشيوخ والأساتذة والتلاميذ، ومع أهل ديننا وملتنا وعقيدتنا ومذهبنا وطريقتنا وجماعتنا وحزبنا ومواطنينا ...؟
ولا شك أن كل واحد منا مرت به تجربة وجب عليه فيها تنفيذ أمر الله تعالى بالعدل في القول ولكنه لم يمتثل ، فإن ذكر شيئا من ذلك فعليه أن يبادر إلى تداركه عن طريق توبة نصوح بالشروط التي تتحقق بها من إقلاع ،وندم ،وعزم على عدم العودة بعد الإقلاع والتحلل مما ترتب عن تعطيل أمر الله تعالى بالعدل في القول ، وهذا الشرط الأخير هو أصعب ما في التوبة النصوح، ذلك أن من لم يعدل في قول تسبب في ضياع حق من حقوق الغير، وجب تمكين صاحبه منه لتصح توبته التي اشترط فيها الله تعالى توبة إليه فيما بينه وبين العباد ، وتحللا مما بينهم من حقوق ضائعة بما فيها حق العدل في القول .
وكما أنه يجب على كل من لم يعدل في قول أن يتوب من ذلك بما تتحقق به توبته النصوح، يجب أيضا على كل من استفاد مما ترتب عن عدم العدل في القول من جور أن يتحلل مما استفاد منه برده إن كان مما يرد أو رد ما يعدله أو الاعتراف والإقرار به إن تعذر ذلك أو تعويضه بما يصلح تعويضا أو التماس العفو ممن لحقه ضرر أو خسارة بسبب ذلك .
وفي الأخير نطرح السؤال التالي : هل نحن حقا على استعداد لتوبة نصوح من خطيئة تعطيل العدل في القول ؟
اللهم إننا نسألك أن تقدرنا على التحلل من كل قول لم نعدل فيه ما تعمدنا من ذلك ،وما لم نتعمد ، كما نسألك سبحانك أن تؤدي عنا ما لا نقدر على التحلل منه مما فات عندنا من ضياع حقوق غيرنا بسبب ترك ما أمرتنا به من عدل في القول . اللهم إنا نرجوك رجاء المذنبين المقرين بالذنب الضارعين إليك الفارين منك إليك المفتقرين لجميل عفوك وواسع رحمتك أن ترحم ضعفنا وتغفر ذنبنا وتتجاوز عنا ما بيننا وبينك ،وما بيننا وبين خلقك ،فإنك غفور رحيم وعلى كل شيء قدير ، وإنه لا يغفر الذنب العظيم سواء يا إلهانا العظيم آمين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 921