وبرزوا لله جميعا
( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )
من المعلوم أن الاعتقاد باليوم الآخر يعتبر ركنا من أركان الإيمان ، ولا يصح هذا الأخير إلا به وبغيره من الأركان الخمسة الأخرى . والإيمان باليوم الآخر إيمان بالغيب الذي غيبه الله تعالى لحكمة إلى أن يحين الكشف عنه إذا جاء أوانه.
ولقد تناول القرآن الكريم أخبارا عن اليوم الآخر بدءا بقيام الساعة وبعث الناس من قبورهم وحشرهم ومرورا بمحسابتهم وانتهاء بجزائهم مع ذكر نوع الجزاء الذي يكون إما نعيما وإما جحيما دائمين دوام الأبد .
ومما يتعلق بوصف الجزاء نعيما أو جحيما ذكر كتاب الله عز وجل ما ستكون عليه أحاديث الناس سواء الذين سيحلون بالنعيم أو الذين سيحلون بالجحيم .
ومن حديث أهل الجحيم ما جاء في سورة إبراهيم في قوله تعالى : (( وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )) ،فهذا حوار سيكون لا محالة بدليل التعبير عن قولهم بصيغة المضي لا بصيغة الاستقبال، وسيدور بين شريحتين من أصحاب الجحيم ، شريحة الضعفاء وشريحة المستكبرين ، وهو تصنيف كانوا عليه في حياتهم الدنيا وقوامه تبعية ضعفاء خاضعين لأقوياء مستكبرين فيما يعتقدون وفيما يقولون أوما يفعلون .
ومعلوم أنه من طبيعة الإنسان طغيانه كلما رأى أنه قد استغنى كما جاء وصفه بذلك في قول الله تعالى : (( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )) . وبناء على هذا يكون الدافع إلى استكباره طغيانه و هو خروج عن الحدود المخصصة لتصرفاته وذلك لاعتقاد باستغنائه سواء كان استغناء ماديا أو استغناء معنويا ، وهذا نجد من الطغاة من تطغيهم قوتهم البدنية أو العقلية أو المادية أو سلطتهم ... إلى غير ذلك من أنواع القوة. ومع حصول هذه القوة لدى الأقوياء يتسلطون على من لا قوة لهم من الضعفاء فيستضعفونهم ، ويستخفون بهم ،فيكونون بذلك تبعا لهم فيما يعتقدونه أو فيما يفعلونه ويقولونه ، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم في سياق الحديث عن فرعون الذي استخف بقومه بسبب قوة سلطته وذلك في قوله تعالى : (( قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )) ، فكان قومه تبعا له فيما يرى وهو على ضلال ، وكانوا يتماهون معه في ذلك ، وقد وصف الله تعالى ذلك التماهي بقوله : (( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين )) .
وحوار أهل الجحيم في الآخرة وهم في عذاب جهنم مشتركون كما صوره القرآن الكريم عبارة عن تلاوم فيما بينهم حيث يلوم الضعفاء التابعون الأقوياء المستكبرين في شكل سؤال : (( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء )) وهو استفهام غير حقيقي يفيد اللوم والتوبيخ والتبكيت لأنهم كانوا تابعين لهم ،ومن المفروض بحكم تبعيتهم أن يتحملوا عنهم تبعة تبعيتهم وهي عذاب الجحيم جزاء ما تابعوهم فيه من ضلال إلا أن المستكبرين يحاولون التملص من مسؤولية تضليلهم بقولهم : (( لو هدانا الله لهديناكم )) أي أننا سواء معكم في الضلال ، وهو عكس ما كانوا يقولونه لهم في الحياة الدنيا مدعين العلم والفهم والصواب ... وأكثر من ذلك يذهبون بعيدا في تيئيس أتباعهم من النجاة من العذاب بقولهم : (( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص )) ،علما بأنهم قد غرروا بهم في الحياة الدنيا بوعود كاذبة ، وهذا مما يزيد أتباعهم ندما وحسرة على خضوعهم لهم واتباعهم فيما كانوا يأمرونهم به من ضلال .
ويلتحق بهذا الحوار بين هؤلاء عنصر آخر وهوالشيطان الرجيم المشارك لهم النزول في الجحيم كما صور ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى : (( وقال الشيطان لمّا قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم )) . و هو أمر يتزامن مع توبيخ الضعفاء التابعين للمستكبرين المتبوعين ، وتنكر هؤلاء لهم حيث يتوجه الجميع إلى الشيطان الرجيم باللوم والتوبيخ ، فيتنكر لهم بدوره ويتبرأ منهم بطريقة تزيد من مرارة ندمهم لأنهم استجابوا له في حياتهم الدنيا مع أنه لم يكن له عليهم سلطان أو قهر أو غلبة ، ولم يكن يجبرهم على متابعته بل كان يدعوهم وهم أحرار في تصرفاتهم ، فيستجيبون له عن طواعية منهم ، وذلك لما كان فيهم من استعداد للضلال ثم يرد على لومهم له بلوم مماثل بذكر ما كان منهم من استجابة له حين كان يدعوهم إلى الضلال دون أن يكرهوا على ذلك أو يغلبوا أو يقهروا وييئسهم بدوره من الخلاص بقوله : (( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ )) ، أي لا أنا مغيثكم ومنجيكم ، ولا أنتم تغيثونني مما نحن فيه جميعا من عذاب ، ويكون في قوله هذا مزيد من شدة الندم والحسرة . وما أشد ندم وحسرة من يكتشف يومئذ أنه كان ضعيفا أمام قوي مستكبر ضال أضله ، فتابعه في ضلاله ، وأنهما كانا معا ضحية كيد الشيطان الرجيم وقد استجابوا له مع أنه لم يكن له عليهم سلطان ولا قدرة ولا قهر بل كانوا يفعلون ذلك راضين به نظرا لما كان فيهم من استعداد لمسايرته فيما كان يغريهم به من ضلال .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه كثير من الناس إلى خطر المجازفة بمصيرهم الأخروي من خلال متابعة المستكبرين المضلّين في ضلالهم حيث يخضعون لهم فيما يعتقدونه أو يقولونه أو يفعلون ، وتكون هذه المتابعة إما خوفا من قوتهم وسلطانهم وبطشهم أو إعجابا بهم أوتكون لاستعداد فيهم ، وهذه أسباب ثلاثة لمتابعة الضّالين المضلّين في ضلالهم .
وتكون المتابعة إما جماعية أو فردية حيث تتابع الجماعة من الناس الفرد الواحد منهم أو يتابعها الفرد الواحد . والواقع أن هذه المتابعة مهما كان السبب وراءها لا عذر فيها لجماعة تابعة لفرد ، ولا عذر فيها لفرد تابع لجماعة بما في ذلك من كانوا يخافون من بطش قوة أو سلطان المستكبرين لأنه كان بمقدورهم إخفاء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل عنهم مصداقا لقوله تعالى : (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم )) .
ولقد حذر الله عز وجل من الاتباع أو المتابعة في الضلال ، ونبّه إلى البراءة التي تكون للمتبوعين من التابعين عند حلول عذاب الآخرة في قوله تعالى : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار )) .
إن الناس في زماننا هذا كثير منهم متورطون في اتباع الضلال إما خوفا أو طمعا أو إعجابا أو استعدادا لذلك يكون فيهم دون أن تحضرهم طيلة حياتهم لحظة واحدة لمراجعة أنفسهم ، فتنقضي أعمارهم وهم على ذلك ثم يبعثون بعد موتهم ليكتشفوا غفلتهم عما كانوا عليه من ضلال بسبب متابعة المضلين ، ولا ينفعهم يومئذ معاتبة من تابعوهم في ضلالهم وقد تنكروا لهم وتبرءوا منهم، فيزدادون بذلك ألما وحسرة وندما ولات حين مندم .
وإنه لمن الكياسة أن يتحرى الناس في متابعتهم من يتابعونهم فيما يعتقدون أو يقولون أو يفعلون واضعين نصب أعينهم ما حذر منه الله تعالى من تنكرهم لهم في الآخرة . فكم من مدع ما ليس لديه من فضل على الناس وكرامة وكم من زعيم أو فيلسوف أو عالم أو مفكر أو حقوقي أو اختصاصي في مجال من المجالات ...ضال فيضلّ خلقا كثيرا بآرائه وأفكاره وأقواله وأفعاله ، فيغادر هذه الدنيا وعليه وزر ضلاله وأوزار من أضلهم ، ولا ينفعه يوم العرض على الله عز وجل البراءة أو التنصل من متابعتهم له ، كما لا ينفعهم أنهم كانوا مجرد تابعين له لأنهم كانوا جميعا شركاء في الضلال تابعين ومتبوعين .
اللهم إنا نعوذ بلطفك من أن نتابع ضالين في ضلالهم ، واصرف اللهم عنا كل ضال واصرفنا عن كل ضلال ، وباعد بيننا وبينه بعد المشرقين . اللهم إنا نعوذ بك أن تجعل الضالين لنا قرناء ، وقنا ربنا ندم وحسرة يوم الدين مع الضالين والمضلين إنك أنت أرحم الراحمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 923