الإخلاص أيها الدعاة
الدعاة هم أفراد من المسلمين، أحسُّوا بأهمية القيام بواجب تبليغ دعوة الله إلى الناس، لعلّ الله يهدي بهم كافراً فيُسْلم، أو ظالماً فيرتدع عن ظلمه، أو عاصياً فيتوب، أو غافلاً فينتبه، أو جاهلاً فيعلم. يحدوهم في ذلك قول الله تعالى: (الذين يبلّغون رسالات الله، ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله. وكفى باللّه حسيباً). {سورة الأحزاب: 39}.
وقوله سبحانه: (ولتكنْ منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وأولئك هم المفلحون). {سورة آل عمران: 104}.
وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من أن يكون لك حُمْر النَّعم". رواه الشيخان.
وحتى يكون عمل هؤلاء الدعاة مقبولاً عند الله تعالى، وحتى يلقى استجابة من الناس، فلا بد أن يكونوا أوّل الملتزمين بما يدعون إليه من الحق والخير والصواب والهدى، وأن يكونوا على علم بدين الله، حتى يدْعوا على بصيرة، كما أمر الله تعالى: (قل: هذه سبيلي، أدعو إلى الله على بصيرة، أنا ومَن اتبعني. وسبحان الله، وما أنا من المشركين). {سورة يوسف: 108}.
ولا يُشترط في الداعية الكمال في العلم أو في السلوك، وإلا ضاع واجب الدعوة والتبليغ، فهذا الكمال لن نجده في غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام.
لكن الأمر الذي لا يقلّ أهمية عن كل ما سبق، والذي يجب أن يتحرّاه الداعية في أقواله وأفعاله وأحواله، إنما هو الإخلاص. أن يكون عمله لله، لا ابتغاء العلوّ والشهرة وتحصيل لُعاعة من الدنيا، فعمل القلب في ذلك مقدَّم على عمل اللسان والقلم.
وقد يخادع الإنسان نفسه، فيعمل للشيطان وهو يقنع نفسه أنه يعمل لله، أو، في أقل تقدير، يعمل لله ويعمل للشيطان. وذلك أن الداعية ينطلق في بدايته وهو مملوء حماسة في الدعوة إلى دين الله وطاعته، لكن في أثناء الطريق تَعْرِض له مواقف يحبّ فيها أن ينتصر لنفسه، أو أن يُخضع إخوانه الدعاة ليأتمروا بأمره وينصاعوا إليه ولا ينافسوه على موقع أو منصب، وقد يبلغ به الأمر أن يفتري عليهم أو يتآمر... ومع ذلك يبقى في أمور الدعوة الأخرى، على درجة حسنة من الإخلاص. وهنا يدخل الشيطان ليوسوس له: لولا أنك مخلص لما تحمّلت المتاعب والمحن في سبيل الدعوة، ولعلّك، لولا إخلاصك، كنتَ ترضى بمنصب عند الظالمين. وإذ قد رفضت ذلك فأنت من المخلصين!.
نعم إنه مخلص في التصدي للكفر والظلم، وفي الانتصار لدين الله، ولكنه ليس مخلصاً في تعامله مع إخوانه الذين ينافسونه على موقع، أو الذين يخالفونه في مذهب أو اجتهاد، أو انتماء إلى جماعة أو حزب.
ويمكن أن نذكر نماذج من مظاهر الخلل في إخلاص بعض الدعاة، وهذه النماذج تتفاوت في درجة خطورتها، فمنها ما كان خطره يسيراً، يدل على ضعف أو تقصير أو غفلة، ومنها ما كان خطره شديداً. ونسأل الله أن يُطهّر قلوبنا جميعاً من كل ما يُضعف من إخلاصنا أو يُلوّثه.
- داعية يحقق نجاحات دعوية باهرة، فيدرك قيمة نفسه ومواهبه وحاجة إخوانه إليه، ويروقه إعجاب الناس به... فيتخذ من ذلك ورقة ضغط على إخوانه الذين يعمل معهم، حتى يخضعوا لآرائه، أو حتى يعطوه الموقع الذي يطمح إليه.
- وآخر يحسّ بمواهبه، ويتحسّبُ للمستقبل، فيعمل على تشكيل "جيوب" من "المحاسيب"، لعلّهم يفيدونه عندما يحتدم الصراع بينه وبين منافسيه.
- وثالث يمارس تسلُّطه على أقرانه ومرؤوسيه، فلا يقبل بهم شركاء في الطريق، بل يريدهم أعواناً ومساعدين مأمورين، لا يحق لهم أن يعترضوا أو ينتقدوا... وما كان من نجاح فينسبه إلى نفسه، وما كان من فشل وإخفاق فينسبه إليهم.
وقد يبلغ به الأمر أن ينال من مكانة إخوانه الذين يكْبُرونه والذين سبقوه بالإيمان... لأنه يرى في وجودهم عائقاً أمام شهرته، لذلك لا يفتأ يبحث عن أخطائهم وزلّاتهم، ويُسيء تفسير بعض مواقفهم ليحطم مكانتهم في نفوس أقرانهم.
- ورابع يكون أسير اجتهاداته، أو أسير اجتهادات مَن يقلّدهم، فلا يفتأ يطعن ويغمز بمن يخالف هذه الاجتهادات أو تلك، وينسى أن العلماء والدعاة، منذ عصر النبوة، ما يزالون يختلفون في كثير من الاجتهادات، واجتهاداتهم جميعاً محل احترام وتقدير، يختار المسلم منها ما يراه الأرجح والأصح، أو الأتقى أو الأرفق، ولكنه لا يعرّض بالاجتهاد الآخر ولا يسفّهه ولا يحقّره.
أليس أتباع المذهب الحنفي لا يرون لمس المرأة الأجنبية ناقضاً للوضوء، ويرون القراءة خلف الإمام مكروهة... بعكس ما يراه الشافعية في المسألتين، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ومع ذلك يصلّي الحنفيّ والشافعيّ وغيرهما في صلاة واحدة، ولا يهُمُّ أن يكون الإمام من هذا المذهب أو ذاك.
وما ذكرنا من اختلاف في أمور فقهية، نقول: إن مثله الاختلاف فيما يسمى اجتهادات حركية ودعوية و"فصائلية". وإن ضيق الصدر بالاجتهاد المخالف قد يدل على ضيق الأفق، كما قد يدل على ثلمة في الإخلاص. فليراقب الدعاة قلوبهم ليعلموا: هل هم دعاة إلى الله أم أن شيئاً قد خالط إخلاصهم؟.
وسوم: العدد 927