( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل )
حديث الجمعة :
من ابتلاء الله عز وجل لعباده المؤمنين أنه كتب عليهم خوض النزال مع الذين يعادونهم بسبب إيمانهم . ويستعرض القرآن الكريم نماذج من هذا النزال بين القلة من أهل الإيمان والكثرة الكاثرة من أهل الكفر عبرة للعالمين الذين يعتقدون اعتقادا جازما أن الغلبة للكثرة ضرورة ، ولا وجود لاستثناء في ذلك .
ومعلوم أن النزال بين فئة قليلة وفئة كثيرة هو نزال يغيب فيه التكافؤ في القوة والعدد والعدة ، ويكون الظن الغالب عند أغلب الناس أن الكثرة تكون لها الغلبة ضرورة إلا أن ما جاء في كتاب الله عز وجل من أخبار الفئة المؤمنة القليلة في نزالها مع الفئة الكافرة الكثيرة المعادية لها تكون هي الغالبة ، وبذلك يسقط الظن بغلبة الفئة الكثيرة مصداقا لقوله تعالى : (( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين )) ،وهذا قول الذين يظنون أنهم ملاقو الله عز وجل كما وصفهم تعقيبا على قولهم الصادر عن قناعة إيمانية ، وهو قول دال على حسن الظن به سبحانه وتعالى وعلى التعويل عليه في نزالهم وهم قلة مؤمنة مع كثرة معادية لها . ولقد جاء التذييل وهو قوله تعالى : (( والله مع الصابرين )) في هذه الآية الكريمة ليؤكد بذلك حقيقة غلبة الفئة القليلة المؤمنة الصابرة الفئة الكثيرة الكافرة خلافا للظن الغالب عند أغلب الناس .
وجريا على سنة الله عز وجل في الخلق منذ بدء الخليقة أن غلبة الفئة المؤمنة القليلة سواء كانت قلتها قلة عدد وعدة الفئة الكثيرة عددا و عدة ، فقد جعل الغلبة للفئة المؤمنة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر الكبرى حيث واجهت الفئة الكثيرة الكافرة المشركة ، وكان عددها وعدتها يومئذ حوالي ثلث عدد وعدة عدوها ، ومع ذلك كتب الله تعالى لها الغلبة وما النصر إلا من عنده وبإذنه .
ومما حصل لتلك الفئة المؤمنة أن الفئة الكافرة أرادت في وقت من الأوقات النيل من معنوياتها، فروجت على لسان بعضهم أنها تعد مرة أخرى لنزال آخر معها في بدر بكثرة عدد وعدة . وكان الغرض من وراء ذلك تخويفها من نزال مزعوم حتى إذا خافت ظهر ضعفها وسهل النيل منها . وكان التخويف عبارة عن جس نبضها كما يقال . وما حصل أثناء تخويف الفئة المؤمنة هو عكس ما أراد من خوّفها حيث أقدمت على التحرك نحو بدر، فلم تجد الجمع المزعوم ، وأصابت يومئذ حظا في صفقة تجارية مربحة . ولقد تناول كتاب الله عز وجل هذا الحدث حيث قال سبحانه وتعالى : (( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين )) .
ولقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بمن خوفوا المؤمنين يومئذ رجل يدعى نعيم بن مسعود الأشجعي وكان أبو سفيان قد أوعز إليه بذلك . وتخويف المؤمنين دل عليه في الآية الكريمة قوله تعالى (( قد جمعوا لكم )) وهو ما يعني كثرة العدد والعدة . والعادة أن الكثرة تخيف القلة ، إلا أن الفئة المؤمنة بالرغم من قلتها لم يزدها التخويف سوى ثباتا وإقداما، فتحركت للتو إلى بدر دون تردد حيث قيل لها أن عدوها قد جمع لها . وذكر المفسرون أن زيادة الإيمان في الآية الكريمة لم يقصد به الإيمان القلبي ، وإنما قصد به العمل المترجم له، وهو التحرك إلى بدر ، كما قالوا إن الإيمان القلبي بطبيعته لا ينقص بل هو دائما في زيادة ، وأن الذي قد ينقص هو ما يقابله من عمل . وقد جرت سنة الله تعالى باختبار الإيمان القلبي من خلال ترجمته العملية أو الإجرائية مصداقا لقوله تعالى : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )) ، إنها سنته سبحانه وتعالى في ابتلاء الفئة المؤمنة بالفتنة الممحصة لإيمانها القلبي . ولقد نجحت الفئة المؤمنة التي تم تخويفها من جمع الفئة المعادية لها، فكان الدليل العملي على صدق إيمانها هو خروجها إلى بدر بنية مواجهة عدوها بالرغم مما وصف لها من كثرة عدده وعدته لأنها بفعل إيمانها احتسبت لربها مقرة له بكفالته كفالة موعودة وأنعم بها. وجاءت الجائزة بعد الامتحان والابتلاء ، فكانت عبارة عن خير أصابته تلك الفئة المؤمنة ، وهو عبارة عن خير مادي أصابته ،دون مواجهة أو نزال مسّها بسوء ، وظفرت بأجر من الله عز وجل على صدق نيتها بمنازلة عدوها وعدم الخوف منه .
ولقد ذكر الله تعالى أن تخويف الفئة المؤمنة من عدوهم كان عملا شيطانيا حيث تولى الشيطان ذلك بنفسه فأوحي به إلى قرين له من البشر ناب عنه ولقد نهى سبحانه وتعالى الفئة المؤمنة عن الخوف من غيره ، وهو شرط من شروط صحة الإيمان حيث عقب على ذلك سبحانه وتعالى بالقول : (( إن كنتم مؤمنين )) .
وقد يظن البعض أن الفئة المؤمنة التي زادها التخويف الشيطاني إصرارا على إثبات إيمانها عمليا بالتحرك إلى بدر، لم تأخذ بما أمر به الله عز وجل من أسباب للنزال ، والحقيقة أنها أخذت بها مع يقينها أن النصر من عنده سبحانه وتعالى .
ومعلوم أن الله تعالى ما ذكر خبر التخويف الشيطاني للفئة المؤمنة إلا ليسن سنة مغالبة الخوف من الخلق عند عباده المؤمنين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، وذلك وفق قاعدة العبرة بعموم لفظ كلامه جل وعلا ، لا بخصوص سببه .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو النزال الدائر حاليا بين الفئة المؤمنة المستضعفة في أرض الإسراء والمعراج وبين الفئة المستكبرة المحتلة لها من الصهاينة ، وهو نزال بين قلة مؤمنة عددا وعدة ، وبين كثرة صهيونية عددا وعدة . ولقد تكرر جريا على العادة التخويف الشيطاني للفئة المؤمنة ،وهو تخويف المرابطين في بيت المقدس وأكنافه حيث اضطلع به بعض أولياء الشيطان ونوابه في عملية التخويف من بعض المحسوبين على الإسلام الذين لم يتوقفوا عن محاولة النيل من عزيمة المرابطين في الأرض المقدسة لصدهم عن مواجهة عدوهم وقد أظهر لهم بطشا ووحشية . ويحاول مثبطو المرابطين فوق أرضهم التظاهر بنصحهم ولإشفاق عليهم من عدوهم ، والحقيقة أنهم متخوفون من هزيمة هذا العدو ، وهي هزيمة من شأنها أن تعود بالخسارة عليهم أيضا إذا ما تحقق وعد الله الناجز بنصر الفئة المؤمنة الصابرة والصامدة في وجه الآلة الحربية المدمرة ، خصوصا وأنهم ربطوا مصيرهم بمصير هذا العدو .
ولقد اقتفى المرابطون في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر الفئة المؤمنة على عهده عليه الصلاة والسلام ، وأعدوا لعدوهم من العدة والعتاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، وهو أخذ بالأسباب ، مع التعويل على عون الله تعالى وقولهم كما قال سلفهم الصالح : ((حسبنا الله ونعم الوكيل ))، فأووا بذلك إلى ركن شديد .وإن وعد الله تعالى إثر هذا القول الدال على قوة اليقين بنصره هو انقلاب الفئة المؤمنة بنعمة وفضل منه ، وإن ذلك ليظهر مع مطلع كل يوم من أيام هذا النزال حيث يتم النيل من عدوها بالرغم من اختلال ميزان القوة بينها وبينه ، وقد أصابه منها ما لم يكن يحتسب . ومع أن نعمة الله عز وجل وفضله على المجاهدين في بيت المقدس وأكنافه لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر ، فإن التخويف الشيطاني لازال جاريا على قدم وساق ، ومروجوه لا يدخرون جهدا في ذلك عسى أن ينالوا من عزيمتهم لترجح كفة عدوهم على كفتهم، وهو ما يأباه الله تعالى القائل في محكم التنزيل : (( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا )) ما دام المؤمنون على إيمانهم وصبرهم واحتسابهم.
والمطلوب من كل مؤمن صادق الإيمان في كل مكان من المعمور أن يجاري المرابطين الصابرين فوق أرض الإسراء والمعراج في إيمانهم المترجم إلى فعل وإجراء ، وفي يقينهم بالاحتساب والتوكيل الله عز وجل دون أدنى شك أو تردد في وعده الناجز الذي وعد به الصابرين من عباده المؤمنين . وأقل ما يقدمه كل مؤمن لهؤلاء المجاهدين والمرابطين في سبيل الله ألا يعتقد أو يقول فيهم قول عدوهم أو قول من يوالونه واصفين إياهم بالإجرام أو الإرهاب أو ما شابه ذلك مما يبخس جهادهم ورباطهم في سبيل الله ، ويستخف بأرواحهم ودمائهم وتضحياتهم . ومن فعل ذلك فقد نقض إيمانه إن كان مدعيا للإيمان ، وعليه أن يبادر بتوبة قبل أن يبوء بغضب وسخط من الله عز وجل .
اللهم إنا نسألك ـ والمجاهدون في سبيلك في أرض الإسراء أولى منا بالدعاء والاستجابة ـ أن تنصرهم جريا على سنتك التي لا تبديل ولا تحويل لها . اللهم انصرهم نصرا تعز به دينك ، وتذل به من عاداه من صهاينة ومن والهم من أعداء دينك . اللهم عليك بآلتهم الحربية فدمرها تدميرا ، والق اللهم مزيدا من الرعب في قلوب أعداء عبادك المجاهدين الصابرين . اللهم إن تهلك هذه العصابة المرابطة من المؤمنين في أرضك المقدسة، فمن ذا الذي سيسبح باسمك فيها من بعدهم إذا ما تم تهويدها ؟ اللهم رقق قلوب ولاة أمور المسلمين للمجاهدين في فلسطين لمدهم بالعون حتى لا يظهر عليهم عدوهم إنك فعال لما تريد.اللهم إنك تطفىء كل نار للحرب يوقدها الصهاينة كما وعدت ووعد حق فلا تجعل لنار حربهم بعد اليوم شرارة إلى يوم الدين .
اللهم إنا نبرأ إليك من كل من أساء الظن بعبادك المجاهدين في بيت المقدس وأكنافه ، أو وصفهم بوصف مشين مما يروج له أعداءك أعداء الدين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 930