( ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )
من المعلوم أنه من تكريم الله عز وجل للإنسان إحاطته بنعم لا تعد ولا تحصى مصداقا لقوله عز من قائل : (( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )) ، وما كان سبحانه وتعالى بعد هذا التكريم أن ينزعها منه وهو يقر بها ، ويثني عليه بذلك ، ويشكرها بالاستعانة بها على طاعته وحسن عبادته .
ومن نعم الله تعالى على الناس منذ بدء الخليقة أنه تعهدهم بعنايته ورعايته عن طريق إرسال رسل كرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين اختارهم من صفوة خلقه بوحي يوحى إليهم للتعريف به سبحانه وتعالى ، والتعريف بالسبل المفضية إلى مرضاته في العاجل والآجل.
ولقد حذر الله تعالى الناس من أن يغيّروا ما أنعم به عليهم من نعم ، والتغيير إنما هو استبدال الشيء بغيره ،ويكون ذلك بإحلال نقضيه محله ، و بناء على هذا يكون تغيير نعمه باستبدالها بالنقم ، ويفهم تحذيره سبحانه وتعالى من قوله : (( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) ، وقد جاء هذا التحذير في سياق الحديث عن أمم خلت غيّر سبحانه وتعالى ما أنعم به عليها من نعم إلى نقم لأنها لم تقابل نعمه بالشكر بل بالجحود، وقد خص سبحانه وتعالى منها بالذكر آل فرعون بالذكر كمثال ، مع الإشارة إلى من كانوا على شاكلتهم في جحود النعم قبلهم ، وفي ذلك إشارة أيضا إلى مصير كل من ينهج نهج هؤلاء في جحود نعمه إلى قيام الساعة ، وذلك في قوله جل من قائل : (( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب)). ومعلوم أن الكفر بآيات الله يترتب عنه بالضرورة الجحود بنعمه ومن ثم تتحول إلى نقم . ولقد ذكر جل وعلا في محكم التنزيل النعم التي أسبغها على آل فرعون ومن كان قبلهم ثم ذكر النقم التي حلت بهم بعدما غيّروا شكرها بجحودها .
ومعلوم أن إحلال النقم محل النعم سنة إلهية ماضية في الخلق أفرادا وجماعات إلى قيام الساعة . وما ذكر الله تعالى تغيير النعم إلى نقم إلا لتحذير الخلق من هذه سريان هذه السنة عليهم إذا ما ساروا على خطى من كان قبلهم في استبدال شكر النعم بجحودها . وفي كل يوم يمر بالناس أفرادا أو جماعات توجد أدلة دامغة على تحول النعم إلى نقم .وكل من زالت نعمة كانت به وحلت محلها نقمة أن يستيقن أنه هو سبب زوالها وسبب حلول النقمة محلها ، ويكفى أن يكون مجرد زوال النعمة نقمة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين على وجه الخصوص بتحذير الله عز و جل لهم من تغيير نعمه عليهم إلى نقم ، خصوصا وأنه سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بنعمة التخفيف من وقع الجائحة التي حلت بالبشرية ، والتي نسأله أن يرفعها عنها كليا لتعود حياتنا إلى سابق عهدها قبل حلولها ، وتعود إلينا بذلك النعم التي أسبغها علينا حينئذ وكنا في غفلة عنها ، وهي كثيرة لا حصر ولا عد لها ، ومع ذلك لم نكن نبالي بها ،ولا نعترف بقيمتها إلا بعد أن تغيرت بحلول الجائحة ،وما ترتب عنها من عسر وضيق ومعاناة لا حصر لها .
ومن النعم التي كنا ننعم بها ثم زالت بحلول الجائحة على سبيل الذكر لا الحصر احتضان وعناق ومصافحة بعضنا البعض ، فصرنا بزوالها نتحاشى بعضنا البعض مخافة العدوى ، كما صارت أنوفنا مكممة بعدما كانت تستنشق الهواء دون حواجز ، وصرنا مقيدين في حلنا وترحالنا ، نحتاج إلى إذن لنتحرك أو نسافر، وضاقت سبل العيش بالكثير منا بعدما كانت ميسرة ، وحرمنا من الصلوات في المساجد ، ومن قيام ليالي رمضان فيها ، ومن حضور صلوات العيدين ... إلى غير ذلك من النعم التي كنا ننعم بها دون معرفة قدرها وشكرها الشكر المستحق حتى زالت .
وإذا كان الله تعالى وله الحمد والمنة قد خفف عنا من شدة وضيق ظرف الجائحة ، وهي نعمة كبرى من نعمه ، فعلينا أن نعرف قيمتها وقدرها ، وأن نعمل على شكرها حتى لا تزول عنا لا قدر الله ، وذلك بعودتنا إلى ما كنا عليه قبل الجائحة من استخفاف بنعمه ، وتقصير في شكر المنعم سبحانه وتعالى .
وعلينا ونحن مقبلون على موسم صيف وعطل ألا ننسى أن الجائحة لمّا تضع حربها أوزارها ، خصوصا وأن بعض المؤشرات توحي بأن بعض الناس إن لم نقل معظمهم يفكرون في العودة إلى ما كانوا عليه قبل الجائحة بإصرار مع أن أهل الاختصاص يحذرون من ذلك احتياطا واحترازا ، ويصرون على مواصلة الحمية من عدوى الجائحة ،علما بأن هذه الحمية إنما هي من نعم الله عز وجل التي لا يجدر بنا أن نفرط فيها من خلال الإخلال بما تقتضيه من احتياط واحتراز خصوصا ونحن نرى أمما لا زال وقع الجائحة عليها شديد ووطأتها لم تخف، وذلك بسبب الاستخفافها بنعمة الحمية ، وبنعم أخرى مما أسبغ الله تعالى به عليها .
ويجدر بنا ونحن مقبلون على شعيرة دينية عظمى، وهي عيد الأضحى المبارك أن نلتزم بما التزمنا به سابقا من حيطة درءا لتفشي الوباء لا قدر الله .
ويجب ألا ننسى أو نتناسى أن الجائحة ما كانت لتحل بالناس وهم شاكرون نعم الله عز وجل عليهم ، وعلينا أن نتعظ بقول الله سبحانه وتعالى : (( فإذا مسّ الإنسان ضر دعانا ثم إذا خوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون )) ، ولا يكون هذا قولنا بلسان المقال أو بلسان الحال .
وعلينا أن نتذكر أن كشف الضر من نعم الله عز وجل التي يجب أن تشكر حتى لا تزول .
اللهم إنا نعوذ بك من كل قول أو فعل يغير نعمك علينا إلى نقم ، ونعوذ بك من زوال نعمك ومن حلول نقمك . ونسأك دوام النعم والشكر عليها ، ونسألك العافية من كل بلية . اللهم إنا نشكرك على كل نعمك ما علمنا منها، وما لم نعلم ، وما عرف قدره منها وما لم تعرف الشكر الذي يرضيك وترضى به عنا ، ونسألك تمام النعم وسابغها ،واجعلها اللهم عونا لنا على طاعتك وحسن عبادتك . اللهم إنا نعوذ بواسع رحمتك من فتنة المحيى والممات .اللهم لا يؤاخذنا بما فعله السفهاء منا ، واجعل الله الحياة لنا زيادة في كل خير ، واجعل اللهم الموت راحة لنا من كل شر .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 934