(فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم)
من سنن رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين الهجرة إليه . ومعلوم أن الهجرة هي الرحيل من أرض والاستقرار في أخرى . وإذا كانت الهجرات دأب الناس عبر تاريخ البشرية الطويل لعدة أسباب أهمها طلب الرزق أو طلب الأمن ، فإن هجرة رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين تختلف عن تلك الهجرات ،لأنها لم تكن طلبا لرزق، ولا طلبا لأمن بل كانت طلبا لمرضاة الله عز وجل ، واستجابة لأمره وإرادته .
ولقد ورد في الذكر الحكيم الإشارة إلى هجرة من أولى الهجرات اختلف المفسرون في صاحبها، فقال بعضهم هي هجرة إبراهيم الخليل عليه السلام ، بينما قال البعض الآخر هي هجرة لوط عليه السلام ، ويتعلق الأمر بقول الله تعالى : (( فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم )) والحقيقة أنهما هاجرا معا في بعض الروايات ،والقول بالهجرة في الآية الكريمة وارد منهما معا .
إن إيمان لوط عليه السلام بإبراهيم الخليل عليه السلام وهو خاله، كان شهادة منه على ما لقي هذا الخال الكريم من محاولة اضطهاد من طرف أعتى كفر في التاريخ البشري أنجاه الله تعالى منه بأن نجاه من نار أعدت لإحراقه وهي أقسى عقوبة يتعرض لها إنسان لا ذنب له سوى الإيمان بخالقه والدعوة إلى الإيمان به.
ولقد جاءت محاولة تصفية خليل الله عليه السلام بالنار إثر حوار كان بينه وبين طاغية زمانه في يوم مشهود حيث زعم الطاغية أنه يحيي ويميت، فتحداه الخليل بأن يأتي بالشمس من غير الجهة التي تأتي منها بأمر الله تعالى، فبهت الذي كفر لأنه استيقن أنه لا يملك موتا ولا حياة ، ولا قدرة له على التحكم في حركة الكواكب والنجوم . كما جاءت محاولة التصفية بعدما حطم الخليل عليه السلام أصنام قومه ليقتلع بذلك من أذهانهم أوهاما وضلالات يعتقد أصحابها تحكم الجماد في الإنسان الذي كرمه الله عز وجل، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا .
ولقد جاءت هجرة الخليل عليه السلام بدافع ترك أرض لا يعبد فيها الله عز وجل المستحق للعبادة وحده دون غيره، ولهذا جاء تعبيره عن ذلك بقوله : (( إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم )) والتذييل في هذه الآية وهو : (( هو العزيز الحكيم ))اقتضى ذكر صفتين لمن يكون هو المقصود بالهجرة، وهما العزة والحكمة ، أما العزيز فهو الذي يقل وجود مثله، والذي تشتد الحاجة إليه ، والذي يصعب الوصول إليه ، وأما الحكيم فهو العارف أفضل وأجل الأشياء بأفضل وأجل العلوم ، ولا يتصف بهذه الصفة إلا الله جل جلاله كما جاء ذلك في قول الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى . والمهاجر إلى عزيز حكيم لا يمكن أن يضام لأنه يكفيه ما يخشى ويحاذر، وهو في حرزه قد آوى إلى ركن شديد ، وهو أعلم بأفضل ما يضمن أمنه وسلامه وطمأنينة نفسه .
والهجرة إلى الله عز وجل هي سنة كتبها سبحانه وتعالى على رسله وأنبيائه صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وقد ذكر منها نماذج في محكم التنزيل حيث يتركون أرض الكفر والشرك إلى أرض تخلص العبادة والتوحيد لمستحقهما جل جلاله ، ويستغنى عن ذكرها ما ذكر من هجرة الخليل عليه السلام .
وآخر هجرة سجلها القرآن الكريم هي هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم حيث هاجر هو الآخر من مكة المكرمة ،وهي يومئذ دار كفر وشرك إلى المدينة المنورة التي أراد لها الله عز وجل أن تكون دار إيمان وتوحيد منها يمتدان إلى كل أصقاع العالم باعتبار الرسالة الخاتمة للناس أجمعين .
ولقد كانت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة عن خروج وإخراج كما جاء في قوله تعالى : (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم )). وليس من قبيل الصدفة أن يتكرر نفس التذييل (( والله عزيز حكيم )) في سياق الحديث عن هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الذي ورد في سياق الحديث عن هجرة الخليل عليه السلام حيث اقتضت هجرتهما اللجوء إلى العزيز الحكيم الذي لا يمكن أن يضاما وهما في حرزه و في ركنه الشديد.
والقول بأن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إخراج وخروج هو أن منطق الكفر والشرك في مكة المكرمة يومئذ لم يستسغ منطق الإيمان والتوحيد، فكان ذلك سبب إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان خروجه من أجل التمكين للإيمان والتوحيد في مكان يستسيغ منطقهما ، ولم يكن ذلك المكان سوى يثرب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمتأمل في المسافة الفاصلة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة يدرك كيف اضمحل منطق الكفر والشرك على بعد مسافة قصيرة من موطنهما لأنهما محض باطل لا يمكن أن تتسع لهما الآفاق البعيدة كما اتسعت لمنطق الإيمان والتوحيد في زمن قياسي إذا ما قيس بزمن منطق الكفر والشرك . ولو كان تراخي الزمن يعطي المصداقية للباطل لما فشل منطق الكفر والشرك وقد طال عهد العرب بهما قرونا طويلة في الجاهلية في عقد من السنين أو يزيد عن ذلك قليلا . ولقد كان منطق الكفر والشرك وهو منطق الباطل معطلا للعقول الذي صاغها الله تعالى لتصل إلى الحق، وهو الإيمان والتوحيد ، ولهذا كان لا بد من هجرة تنقل هذا الحق إلى عقول غير معطلة بباطل فتحتضنه ،وتبلغه إلى كل العقول المتحررة من العطب والعطل .
ولم تنقطع سنة الهجرة في الأمة المسلمة ، ولن تنقطع أبدا إلى أن تقوم الساعة لأنها ضرورية من أجل كسر قيود الباطل المعطلة للعقول كي لا تصل إلى الحق. ولقد انتهت هجرة الإخراج والخروج كما جسدتها هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتحل محلها هجرة الأمة بعده بنفس الروح ولنفس الهدف وهو الهجرة إلى الله كما جسدها قول الخليل عليه السلام : (( إني مهاجر إلى ربي )) لكن اختلفت أساليبها وطرقها حسب اختلاف أحوال الأمة في كل زمان، وهو ما عبر عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " ،وهذا الحديث يدل على تفرد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل هجرة بعدها لأنها كانت من مكان معلوم يرمز إلى الباطل إلى مكان معلوم آخر يرمز إلى الحق ، ولكن كل مكان في المعمور قد يكون رمزا لسيطرة الباطل كما أن كل مكان فيه قد يرمز إلى الحق ، فتكون الهجرة من الأول إلى الثاني بل قد يكون المكان الواحد يتصارع فيه الحق والباطل ، وتكون الهجرة داخله لكنها هجرة من الباطل إلى الحق ليس عبر حركة في المكان بل عبر حركة رمزية في الأذهان والعقول ، لهذا شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرة لأمته تكون عبارة عن مجاهدة للنفس لثنيها عن بؤر الباطل المادية والمعنوية مع استحضار النية بأن ذلك هجرة إلى الله عز وجل على طريقة الخليل وعلى طريقة المصطفى عليهما أزكى الصلاة وأطيب السلام .
ومن لم يحدث نفسه بالهجرة وفق ما ذكرنا لزمه مراجعة إيمانه حتى يقر بها بل ويجد في عقله برهانا ودليلا عليها يقتبسهما من واقعه المعيش .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو قرب موعدنا مع حدث الهجرة النبوية المشرفة التي ستدخل عامها الثالث والأربعين بعد المائة الرابعة والألف على بعد اربعة أيام ،والتي درجت الأمة الإسلامية على الاحتفال بها سنويا ليس لمجرد عد السنين وطي صفحاتها بل لتجديد العهد مع الخالق سبحانه وتعالى بالهجرة إليه مع اليقين التام بأنها هجرة إلى عزيز حكيم لا يضام من هاجر إليه ولا يخشى شيئا مما هجر مهما كان شره وبطشه ،ولهذا الغرض استنفرت الأمة ووجب عليها النفير.
وليس على الأمة اليوم أن تفكر في السفر بعيدا عن مواطنها بل عليها أن تلزم الحق لا تغادره حيث هي موجودة ، وأن تترك الباطل حيثما وجد في محيطها ، وتكون بذلك قد سافرت سفرا رمزيا لا تقل رمزيته عن سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة .
ولا بد مع حلول موعد هجرته عليه الصلاة والسلام أن تفتح الأمة سجلها السنوي الذي دونت فيه هجرتها اليومية من معاقل الباطل إلى حصون الحق لتقيس حجم هجرتها وصدقها وثباتها . وإن للأمة في كل يوم يمر بها هجرة حيث تواجه أنواعا وأشكالا من الباطل يلزمها تركها إلى أنواع وأشكال أخرى من الحق، ذلك أنه كما يتشكل الباطل في كل الآفاق ، فكذلك الحق بغزو كل الآفاق . ولو شئنا أن نسرد أمثلة على ذلك من الواقع المعيش لطال بنا الحديث كثيرا لكن يكفي أن نذكر أن كل مؤمن يجد نفسه أمام صراع بين حق وباطل فلا ينتصر عقله للحق على الباطل حتى لا يكون مخلا بواجب هجرة الأمة برمتها . وكيف يعرض له باطل صارخ يستهدف الحق ولا ينتصر له لا بيد ،ولا بلسان ،ولا حتى بقلب ، ويكون موقفه موقف المتفرج لا موقف المهاجر كما أوجب الله تعالى عليه ذلك .
إن الباطل اليوم يصول ويجول وقد تهيأت له كل الظروف المناسبة ليكون كذلك تدعمه ثروات مادية وإعلام عملاق وسلطان قاهر ، وقد غزا كل ما عز وامتنع ، وصار الآمر الناهي حتى بلغ به الأمر حد نشر الخلاف بين أفراد الأسرة المؤمنة الواحدة ، وهو ما جعل الناس في حيرة من أمرهم لا يدرون كيف الخلاص من خلاف ورطهم فيه هذا الباطل الجموح ، فأصبح في الأسرة الواحدة مهاجر إلى الحق ، ومتشبث بالباطل ، ومطعمهما ومشربهما ومسكنهما واحد وبين نفس الأحضان .
ولم يعد الناس اليوم يتعلمون شيئا من هجرة السلف الصالح حيث كان الأفراد في الأسرة الواحدة منهم المهاجر إلى الله عز وجل ، ومنهم الماكث على حاله من الكفر والشرك ، وكان لا بد من أن تفرق بينهما الهجرة . وما نريده اليوم من الأسر المسلمة ليس صراعا ما بين طلاب الحق وطلاب الباطل من أفرادها ، ولا خروج أهل الحق منها لتصير حكرا على الباطل بل المطلوب هو بقاؤهم ورباطهم فيها لكن مع الانتصار للحق بما توجبه علاقة الرحم من تراحم وتعاطف ، وإذا لم يرعهما من استهواهم الباطل، فلا عذر في ترك رعايتهما من طرف أهل الحق .
ومعلوم أن الحق كلما قارع الباطل بالحكمة التي أودعها فيه الله عز وجل غلبه لأنه بخاطب العقول التي لا أقفال عليها، والتي لا تقبل إلا ما صح من الأدلة والبراهين ، وتلك هي ممارسة الهجرة في هذا الزمان الذي كثر باطله واستفحل أمره ،وكثر شره .
اللهم إنا نسألك هجرة ترضيك وترضى بها عنا ، وتقبلها منا كما قبلت هجرة أصفيائك وأحبائك الصالحين . اللهم لا تجعل للباطل على الحق سبيلا . اللهم أظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون . واجعل اللهم حلول هجرة رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام بشارة خير ويمن وبركة لنا هذا العالم ، وارفع عنا ببركة صاحبها هذا البلاء الوبيل الذي شغل العالمين عسى أن يعودوا إلى صراطك المستقيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 941