( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون )
من المعلوم أن الله عز وجل خلق الإنسان ليبتلى في الحياة الدنيا ثم يجازى عن ذلك في الآخرة مصداقا لقوله تعالى : (( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا )) .
وطبيعة الابتلاء هي أن يكون عبارة عن محك بواسطته يقع التأكد من فوز المبتلى أو فشله .وطبيعة المحك أن تكون فيه مشقة لا مناص من اقتحامها والصبرعليها .
ولقد افتتح الله عز وجل سورة العنكبوت بالحديث عن ابتلاء الإنسان المؤمن للتأكد من صدق إيمانه لأن الانتساب إلى الإيمان أو ادعاؤه بالقول لا يكفي ليصح بل لا بد مما يؤكده الفعل لأن إيمان القول سهل يسير، ويكون في المتناول لأنه لا يكلف أكثر من كلمات يلوكها اللسان بينما الأفعال الدالة عليه لا تكون في المتناول ولا هي سهلة يسيرة . ولقد بدأ قول الله تعالى : (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهو لا يفتنون )) باستفهام (( أحسب الناس )) ، فقال أهل التفسير واللغة إنه مستعمل في الإنكار، أي إنكار حسبان تركهم دون فتنة لمجرد تصريحهم بإيمانهم . وقيل بأن سبب نزول هذه الآية هو ما كان يلاقيه المؤمنون زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة من أذى على أيدي الكافرين في أنفسهم وأموالهم كما حصل مع بلال رضي الله عنه ومع عمّار بن ياسر وأبويه رضوان الله عليهم وغيرهم ممن فتنهم الكافرون بشتى أنواع الفتن . وعملا بقاعدة العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها، يعتبر كلام الله عز وجل موجها إلى كل مؤمن أو مؤمنة في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة .
ولقد اعترض بعض المفسرين لهذه الآية عن قول بعضهم في تفسيرها أن الفتنة تشمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد ، فقالوا ردا عليهم أنها تتعلق بما يلاقيه المؤمنون من فتنة أعداء دينهم ،لأن دأب الناس أن يناصبوا العداء من يخالفهم في معتقداتهم .
والدليل عند الله عز وجل على صدق إيمان المؤمنين هو تحملهم أذى الكافرين حيث قال سبحانه : (( ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )) ،وفي قوله هذا جل وعلا ما يدل على أن فتنة الكافرين للمؤمنين سنة إلهية كانت في الأولين وهي مستمرة في الآخرين إلى يوم الدين .
ويقول بعض المفسرين أن صدق الإيمان الوارد في هذه الآية المراد به ثباته ، كما أن المراد بالكذب عدم ثباته ، ذلك لأن المؤمنين حين قالوا آمنا، لم يكن منهم كاذب في إيمانه لكن حين يفتن الكافرون أهل الإيمان، يكون منهم الثابت على إيمانه الصابرعلى الفتنة ، كما يكون منهم من يخشى الفتنة لعدم رسوخ إيمانه وعدم ثباته عليه مع اطمئنان قلبه بالإيمان .
ومن رحمة الله تعالى بالمؤمنين الذين يفتنهم الكافرون أنه جعل لهم عذرا إذا ما استجابوا لما يريده الكافرون منهم وهم يفتنونهم بنوع من أنواع الأذى متظاهرين أمامهم بالاستسلام لما يطلبونه منهم لكن مع ثباتهم على إيمانهم مصداقا لقوله تعالى : (( من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليه غضب من الله ولهم عذاب عظيم )) وقال المفسرون أن هذه الآية نزلت في عمّار بن ياسر رضي الله عنه ،وفي قوم آخرين فتنهم المشركون ، فعاد ياسر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي لقي من كفار قريش حين سايرهم في الظاهر بما طلبوه منه من كفر بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلبه كاره ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف تجد قلبك " فأجابه: " مطمئن بالإيمان " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فإن عادوا فعد " . وما حدث لعمّار رضي الله عنه قد يحدث لكل مؤمن في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ما دام في الأرض إيمان يحاربه الكفر . وفتنة الكافرين للمؤمنين قد تأخذ أشكالا وأساليب حسب العصور والبيئات ،ولكنها تلتقي كلها عند هدف واحد هو النيل من إيمانهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما قد ينالهم من فتن على أيدي الكافرين مهما كان نوعها ، ويكون القصد من ورائها النيل من إيمانهم كأن يشترطوا عليهم مخالفة شرع الله عز وجل في بعض أمور تدينهم مقابل الحصول على ضروريات لا مندوحة لهم عنها ،فيثبت بعضهم على إيمانه وهو كاره لما فتن به ، بينما يستسلم له البعض الآخر شارحا صدره بذلك ، ومن ذلك على سبيل المثال ما يفرض على المرأة المؤمنة في بعض الدول التي لا تدين بدين الإسلام من تخليها عن لباسها الشرعي مقابل السماح لها بالدراسة أو الشغل مما يكون ضروريا لحياتها ، ويكون حالها مع اضطرارها لذلك إما الانصياع لما يفرض عليها وهي مكرهة مع طمأنينة القلب بالإيمان وإما رضية شارحة الصدر به بسبب ضعف الإيمان. وعلى هذا المثال تقاس باقي الأمثلة التي يفتن فيها المؤمنون من طرف الكافرين مهما كان نوع الفتن التي يتعرضون لها .
اللهم إنا نعوذ بك من فتن الكافرين ما ظهر منها وما بطن ، ونسألك الثبات على الإيمان إذا ما فتنوا . ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به ،واعف عنا ،واغفر لنا ،وارحمنا ، ولا تجعل فتنتنا في ديننا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 945