( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
من المعلوم أن الله عز وجل قد بيّن في الرسالة الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنها رسالة للعالمين إلى أن تقوم الساعة ، وأن من بعث بتبليغها أرسل إليهم جميعا ، وهذا البيان قد تكرر ذكره في القرآن الكريم ، وفي السنة النبوية المشرقة .
ومعلوم أيضا أن عالمية الرسالة الخاتمة هي مؤشر على قرب نهاية مرحلة ابتلاء البشرية في الحياة الدنيا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " بعث والساعة كهاتين " مشيرا إلى إصبعيه الوسطى و السبابة التي تلي الإبهام كما أخبر بذلك راوي الحديث سهل بن سعد الساعدي الذي عاين حركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا إشارة واضحة إلى اقتران قيام الساعة أو نهاية العالم ببعثته عليه الصلاة والسلام كاقتران وتجاور الوسطى والسبابة من جهة ، ومن جهة أخرى تفاوت البعثة النبوية وقيام الساعة بفارق ضئيل كالفارق في الطول بين هاتين الإصبعين ، وهو ما يؤكده قول الله سبحانه وتعالى : (( اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ))، وقوله : (( اقتربت الساعة وانشق القمر )) ، وقوله أيضا : (( وما يدريك لعل الساعة قريب )) .
ويفهم من هذا أن الرسالة الخاتمة، والرسول الخاتم علامتان من علامات الساعة وستليهما علامات أخرى مما أخبر به الله تعالى في كتابه الكريم ، و أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة لا يتسع المقام لسردها في هذا المقال ، وقد أسهب أهل في الحديث عنها ، وصنفوها إلى صغرى ، و وسطى ، وكبرى،والعقلاء الأكياس من الناس تكفيهم البعثة النبوية كعلامة على قرب قيام الساعة دون الحاجة إلى الخوض في باقي العلامات سواء صغرت أم توسطت أم كبرت لأن االله تعالى استأثر بعلم قيامها مصدقا لقوله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم : (( يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجلّيها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأن حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) . وكفى بقوله تعالى هذا جوابا لكل سائل عن متى تقوم الساعة .
ومعلوم أن مهمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الرسالة الخاتمة التي أمر بتبليغها للبشرية هي كما أخبر الله تعالى التبشير بجزاء الخلد في النعيم ا بالنسبة للمتقين ، والإنذار من عقاب الخلد في الجحيم بالنسبة للناكبين عن صراطه المستقيم مصداقا لقوله تعالى : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )).
وحري بكل إنسان بعد البعثة النبوية مهما كان لسانه أو جنسه أو لونه أو بيئته زمانا ومكانا أن يستوعب جيدا فحوى هذه الآية الكريمة ليكون خارج تصنيف الكثير من الذين لا يعلمون أن الرسالة الخاتمة عبارة عن تبشير وإنذار وتحذير . ولا عذر بعد البعثة النبوية لأحد ولا ذريعة يتذرع بها ليدعي عدم العلم بالرسالة الخاتمة ومدارها علما أن مبلغها عليه السلام أخبر أنها ستبلغ ما بلغ الليل والنهار ومبلغهما كوكب الأرض برمته كما جاء في حديثه : (( ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزّ عزيز أو بذلّ ذليل ، عزّا يعز به الله الإسلام ، وذلاّ يذلّ به الله الكفر)). وما نظن أنها في زماننا هذا لم تبلغ بيتا في المعمور .
ولمّا كان وعد الله عز وجل بأنه لا يعذب قوما حتى يبعث فيهم رسولا مصداقا لقوله تعالى : (( وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا )) ، وأنه سبحانه وتعالى لا يترك لأحد من خلقه حجة يحتج بها عليه يوم القيامة مصداقا لقوله تعالى : (( رسلا مبشّرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ، فإنه لا عذر لمن أدرك الرسالة الخاتمة التي أرسلها جلّ وعلا للناس كافة .
ومعلوم أن كل من أدركته الرسالة الخاتمة يكون حتما على دراية بما تحمله من بشارة للمؤمنين بالله تعالى وباليوم الآخر ، ومن إنذارا للكفار الجاحدين بوجوده والمكذبين باليوم الآخر . وكل من بلغه أمرها ذلك بطريقة أو بأخرى لزمه أن يسأل عن طبيعة ما تبشر به ، وطبيعة ما تنذر به أو تحذر منه ، وقد جاء القول مفصلا في ذلك كتابا وسنة ، ومن عرف هذا الأمر لزمه أن يختار بين مصير المبشرين و بين مصير المنذرين ، علما بأنه لكل مصير سعي معلوم قد فصّل هو الآخر تفصيلا في الكتاب والسنة أيضا .
ولقد ذكر الله تعالى بعد إخباره أن رسوله صلى الله عليه وسلم قد أرسل للناس كافة أحمرهم وأسودهم ، وقيل هما الجن والإنس، وربما كنيّ عن أحدهما بالحمرة ، كما كنيّ عن الآخر بالسواد ، وقيل ربما هم العرب والعجم ،والله تعالى أعلم بأن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة البشارة والإنذار الواردة في الرسالة الخاتمة ، وهذا يعني أن الكثرة الكاثرة من الناس غافلة عن هذا الأمر العظيم ، ويدل على ذلك قوله تعالى إخبارا بما سيكون عليه الناس بعد قيام الساعة : (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )) . ومعلوم أن الذي جعل أهل النار بهذه الكثرة الكاثرة هوغفلتهم عما جاء في الرسالة الخاتمة تبشيرا وإنذارأ لأنهم قدعطلوا عقولهم ، و عميت أبصارهم و وصمّت آذانهم ، فصاروا كالأنعام أو أضل منها . وإن عقولهم وأبصارهم وأسماعهم وكل حواسهم التي يستعملونها في إدراك كل أمور حياتهم ، ولا يستعملونها في استيعاب فحوى الرسالة الخاتمة هي حجة عليهم يوم الوقوف بين يديّ الله عز وجل ، وهي شاهدة عليهم كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى في قوله جل وعلا : (( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون )) وقوله أيضا : (( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتهم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ))
مناسبة حديث هذه الجمعة هو مواصلة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناسبة قرب حلول مناسبة مولده الشريف استكمالا لحديث الجمعة الفارطة التي استوقفنا فيه الكلام عن قول الله تعالى : (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) ، وقد بيّنا بعض أوجه تلك الرحمة المشار إليها في قوله عز وجل .
والكلام في حديث هذه الجمعة كما تقدم ،يتعلق بمهمة التبشير والإنذار التي كلّف بها الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهي مما يجب أن يستحضر بحلول مناسبة المولد الشريف لأن من فاتته فرصة هذا الاستحضار كان في غفلة مع الكثرة الكاثرة الغافلة المعطلة للعقول والأبصار وأسماع ، وهذه هي الموصلة إلى ما يجب استحضاره من أمر التبشير والإنذار في الرسالة الخاتمة ، ومن أمر السعي الذي يبشر به أصحابه بالجنة ، والإنذار الذي يتوعد به أصحاب النار.
إننا ونحن في زمن الكثرة الكاثرة من الغافلين عما بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنذر وما حذر منه ، والمعطلين عقولهم وأسماعهم وأبصارهم يجدر بنا أن تغتنم فرصة إحياء ذكرى مولد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم من أجل إلى الرشد بعد الضلال من خلال تشغيل وإعمال العقول والأبصار والأسماع في تأمل وتدبر السفرين المخطوط، وهو كتاب الله عز وجل ، والمشهود، وهو الكون الفسيح ،علما بأن المخطوط يحيل على المشهود ، وهذا الأخير يبرهن بأدلة قطعية لا يرقى إليها شك أو ريب على صحة الأول ، والعقول والعيون ،و الآذان شاهدة على ذلك ، وكفى بشهادتها على الناس كافة .
ولا يكون التفاعل مع استحضار بشارة وإنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقيا إلا إذا حل محل السعي الموبق الذي أنذر وحذّر منه عليه الصلاة والسلام السعي المنجي الذي بشّر به.
ويا خسارة من فاتته فرصة حلول هذه المناسبة ، ولم يهده عقله ولا بصره ولا سمعه إلى الحق اليقين ، ورضي لنفسه منزلة الأنعام أوما دونها وقد كرمه الله تعالى، وفضله عليها تفضيلا .
اللهم إنا نسألك هديك الذي أرسلت به رسولك صلى الله عليه وسلم ، ونسألك قلوبا عاقلة ، وعيونا مبصرة ، وآذانا سامعة واعية ، ونعوذ بك من مرتبة الأنعام أو أضل منها . اللهم جدد إيمان أمة الإسلام بمناسبة حلول مولد سيد المرسلين الهادي إلى صراطك المستقيم والذي أرسلته رحمة للعالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 951