( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض )
من المعلوم أن سنة الله عز وجل في الخلق بعد إرسال الرسل إليهم إما أن يسبغ عليهم نعمه أو يحل بهم نقمه حسب ما يكون عليه موقفهم من رسله من تصديقهم أو تكذيبهم . ولقد قص علينا القرآن الكريم أخبار الأمم السابقة، وما كان بينها وبين من أرسلوا إليها ، وذكر لنا نماذج منها من آمنت بالله عز وجل وأطاعته فأسبغ عليها نعمه ، ونماذج أخرى كفرت به وعصته فحلت بها نقمه .
ولمّا كان القرآن الكريم هو الرسالة التي ختمت بها الرسالات السابقة ، وهي رسالة عالمية للناس كافة إلى قيام الساعة ، فإن ما تضمنته يعني البشرية كلها دون استثناء . ومما يعنيها ربط الله تعالى إسباغ نعمه عليها بالإيمان به وتقواه ، وربط حلول نقمه بها بالكفر به ومعصيته مصداقا لقوله تعالى :
(( وما أرسلنا في قرية من نبىء إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرّعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهو يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) .
ففي هذه الآيات البيّنات من سورة الأعراف، تذكير للبشرية في الرسالة الخاتمة بسنة الله تعالى الماضية في خلقه بعد إرسال أنبيائه إليهم يدعونهم إلى الإيمان به وطاعته فيما أمر ونهى ، فإذا ما رفضوا الانصياع لدعوتهم ،نزلت بهم البلوى وهي بأساء أو ضراء أو هما معا لعلهم يتضرعون إلى ربهم ، ثم يبدلهم بالبلوى إحسانا إليهم لكنهم لا يتعظون زاعمين أن ذلك من السنن الماضية في السابقين ، وأنه أمر مألوف وطبيعي ، فحينئذ يحل بهم عذاب الله الشديد بغتة وهم غافلون لا يتوقعون حلوله بهم .
ولمّا كانت هذه سنة الله عز وجل في الخلق ، فإنه أمرهم بالإيمان به وتقواه كشرط به يفتح عليهم من بركات السماء والأرض من نعمه التي لا يحصيه عد ، ذلك أن السماء هي موردهم من الماء الذي يسكنه سبحانه وتعالى الأرض ، ويجريه فيها أنهارا ، ويفجره عيونا ، وهو مصدر حياتهم ،وحياة كل مخلوق يشاركهم الحياة فيها ، وأن الأرض قد جعلها خزانا كبيرا للثروات الباطنية ، وجعل سطحها غابات وحقولا ومزارع تنبت لهم ما يأكلون هم وأنعامهم . ومقابل شرط الحصول منه سبحانه وتعالى على نعم الأرض والسماء حذرهم من حلول العذاب بهم ردا على كفرهم وعصيانه وسوء فعالهم، وهو عذاب ينزله بهم بغتة ويكون مسبوقا بالوعيد من قبل ، وقد يحل بهم ذلك ليلا وهم نيام مطمئنين أو يحل بهم ضحى نهار وهم يلعبون مطمئنين ، وتكون خسارتهم فادحة لأنهم لم يحملوا وعيد الله عز وجل على محمل الجد ، و قد أمنوا مكره الشديد لغفلتهم ، وقد مرت بهم البأساء والضراء كوعيد ، وأعقبهما إحسان بدلا عن السوء لإغرائهم بالتوبة والإنابة إلى خالقهم إيمانا به، وطاعة له لكنهم بقوا على ضلالهم المبين .
وعند التأمل في هذه الآيات الكريمة ، نلاحظ أن الله تعالى قد وصف نعمه النازلة من السماء والمودعة في الأرض بالبركات في صيغة الجمع لتعددها وكثرتها ونموها وزيادتها ، والبركة في حد ذاتها نعمة عظمى ، ذلك أنها قد يجعلها الله تعالى في القليل فتكثره ، وينزعها من الكثير فتقلله . ونظرا لكثرة بركات السماء والأرض فقد استعار لها سبحانه وتعالى الفتح الذي هو إزالة الحواجز أو الموانع تماما كما تفتح الأبواب على ما خلفها ، ويكون الفتح منه سبحانه وتعالى من خلال توفير أسباب تحصيلها .
ولقد سرد الذكر الحكيم مسار هذه السنة الإلهية في الخلق ، وقصّ علينا سريانها على أمم شتى أهلكها بذنوبها ، وكان آخرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حلت بقريش بمكة بأساء وضراء حين كذبوه ، وفي المقابل فتح الله تعالى على المؤمنين من بركات السماء والأرض في المدينة المنورة حين كان الكافرون في شدة ومجاعة وهلاك . واستمرت سنة الله تعالى هذه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، علما بأن دعوته بعده باقية إلى يوم القيامة ، والتكذيب بها في كل عصر ومصر تنسحب على أصحابه سنة الأخذ بالبأساء والضراء ، وقد يبدلهما الله تعالى بالإنعام ليكون ذلك استدراجا لهم قبل حلول العذاب بغتة ليلا أو ضحى نهار ، كما أن التصديق بها في كل عصر ومصر ينسحب على أصحابه فتح بركات السماء والأرض عليهم .
والناس في استيعابهم لما توعد به الله تعالى من أخذ ، وما وعد به من فتح صنفان : صنف فائز يأمن مكر الله الشديد ، وصنف خاسر لا يأمنه ، ولا يأخذ وعيده على محمل الجد ، و هو يكرر مقولة الخاسرين الغابرين (( قد مس آباءنا الضراء والسراء ))، وهي عبارة تدل على أمنهم مكر الله عز وجل ، وذلك غفلة منهم ،وبلادة ، وسوء حساب وتقدير .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بهذه السنة الإلهية الماضية في الخلق إلى قيام الساعة ، وتنبيههم من الوقوع في تكرار مقولة الآمنين مكر الله عز وجل من الكافرين خصوصا وقد حلت بالناس بلوى جائحة قاتلة، وهي ضراء ، وها هي بلوى مجاعة تلوح في الأفق ، بسبب الحرب الدائرة في الديار الأوروبية ، والذين يخوضونها هم من الذين استدرجهم الله تعالى بإسباغ نعمه عليهم الشيء الذي أطغاهم ،كما أنهم ممن يأمنون مكره سبحانه وتعالى ، وقد مكن لهم في الأرض، وهيأ لهم الأسباب حتى امتلكوا أسلحة الدمار الشامل التي صار بعضهم يلوح باستخدامها ضد البعض الآخر. وقد يعقب هذه البلاوي إحسان من الله عز وجل ، ويكون ذلك مزيد استدراج لمن لا يؤمنون به ولا يتقونه حتى إذا أمنوا تارة أخرى مكره الشديد أتاهم بأسه الشديد وهم نائمون أو وهم يلعبون .
وعلى المؤمنين أن يلتزموا بإيمانه بخالقهم ، وبطاعته فيما أمر، وفيما نهى استدرارا لبركات السماء والأرض ، وقد أسبغ الكثير منها علينا سبحانه وتعالى ، وهو ما نحمده عليه الحمد الكثير ،وهو سبحانه أهل للحمد والثناء اللذين ينبغيان له بعد جفاف حل بنا ، ويأس كاد يستحوذ علينا وقد فتحها علينا من بركات السماء ، وفي هذا آية لنا وعبرة .
اللهم إنا نبرأ إليك من الذين يأمنون مكرك الشديد ، ونعوذ بك منه ،ونفر منه إليك فأنت سبحانك ملاذنا . اللهم إنا مؤمنون بك ،لا نزكي أنفسنا عندك بل أنت من يزكينا، فافتح اللهم علينا من بركات السماء والأرض . اللهم لا تؤاخذنا بما يفعله سفهاؤنا ، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ومعاصينا التي نطمع أن تغفرها لنا . اللهم بارك لنا جمعة النصف من شعبان ، وباركه لنا كله ، وبلغنا رمضان، وأعنا على صيامه ، وقيامه ، والإنفاق فيه كما تحب وترضى . اللهم ادفع عنا ما بقي من شر الوباء ، وادفع عنا شر حل بنا من غلاء ، وأخمد اللهم يا مولانا نيران الحروب المدمرة ،ونجنا من ويلاتها ، فإنه لا يخمدها إلا أنت ، ولا ينجي من ويلاتها إلا أنت . اللهم اجعل أمرنا بأيدي خيارنا ، ولا تجعله بأيدي شرارنا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 973