عبادة الصيام علاج لعلة الانحراف عن جادة الاستقامة( الحلقة الثانية )
حديث رمضان :
من المعلوم أن الله عز وجل جعل لما تعبّد به الإنسان المؤمن من عبادات مقاصد ، وبيّنها له في محكم التنزيل ،فجعل على سبيل المثال مقصد عبادة الصلاة نهي النفس البشرية عن كل فعل أو قول فاحش ومنكر ، كما جعل مقصد عبادة الزكاة تزكيتها من علة الشح ، وجعل مقصد عبادة الحج منافع بيّنها . وأما مقصد عبادة الصيام فهو حمل هذه النفس على التقوى المتجسدة في استقامة سلوكها فعلا وقولا .
والملاحظ أن مقاصد هذه العبادات تتقاطع فيما بينها ، وتنتهي كلها عند مقصد التقوى ، وهو مقصد عام وشامل . ومعلوم أن النفس البشرية بحكم الغرائز والأهواء المتأصلة فيها جبلة تزيغ عن السلوك السوي عندما تنساق وراء تلك الغرائز والأهواء ، وتحتاج حينئذ إلى ما يعالجها لتعود إلا الاستقامة .
وإذا كانت عبادة الصلاة عبارة عن علاج يومي يقي النفس من فاحش ومنكر الفعل والقول ، فإن باقي العبادات من صيام وزكاة وحج عبارة عن علاج لها أيضا منه ما يكون سنويا كالصيام والزكاة ، ومنه ما يكون مرة في العمر كالحج.
ومع ما لعبادة الصلاة اليومية من دور هام في استقامة النفس لأنها عبارة عن علاج لها متواصل ليل نهار ، فإن الله تعالى قد جعل عبادة الصيام السنوية علاجا سنويا لها لدعم علاجها اليومي ، ولتدارك ما قد لا يزول من علل انحرافها .
ولقد بيّن الله تعالى المقصد من عبادة الصيام في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) . ومعلوم أن التقوى قوامها امتثال المؤمن لأوامر الله عز وجل ، واجتناب لنواهيه ، و بذلك يحوز رضاه ، ويتجنّب غضبه وسخطه سبحانه وتعالى .
ولمّا كانت عبادة الصيام كما مر بنا في حديث سابق عبارة عن عبادة سرية لا يطلع عليها إلا عالم السر وأخفى ، وهي بذلك تكون بمنأى عن علة الرياء ، فإن التقوى تتحقق بها على الوجه الأكمل بحيث لا يمكن أن يقدم الصائم على اقتراف النواهي صيانة لصحتها ولقبولها منه ، وذلك تجنبا لما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " . ومعلوم أن المفسد لصيامه بشيء مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمكنه أن يتحقق لديه مقصد عبادة الصيام ، ولا يكون نصيبه منها سوى الجوع والعطش ، وهو ما يعني عدم شفائه من علة انحرافه عن جادة الاستقامة . وحري بمن تحقق لديه مقصد عبادة الصيام أن يتعافى كليا من هذه العلة ، وأن يستمر على ذلك بعد انصرام الأيام المعدودات من شهر الصيام لأن الله تعالى أراد بعبادة الصيام الرجوع بالعباد إلى جادة التقوى ليس في تلك الأيام المعدودات فحسب بل في باقي أيام السنة .
ومعلوم أن ما يتحقق من تقوى الله عز وجل في رمضان غالبا ما يرتبط بالتوبة النصوح التي لا رجعة معها إلى الانحراف عن جادة الاستقامة . ومن تحققت توبته النصوح في رمضان، يكون قد تحقق لديه المقصد من عبادة الصيام بامتياز.
ومما يرسخ هذا المقصد ما يصاحب عبادة الصيام من قيام يكون عونا للصائم على الاستقامة أيضا ، وبذلك يستوفي علاجه الكامل من علة الانحراف عن جادة الاستقامة .
وككل علاج يقتضي اختبارا للتأكد من نجاعته ، يمكن للصائم أن يتأكد من نجاعة علاج الصيام لانحرافه عن الاستقامة من خلال خلو كل أعماله وأقواله خلال شهر رمضان من علل الفساد ، ولا بد لهذا العلاج أن يستمر مفعوله بعد انصرام شهر الصيام ، وألا يكون مفعوله في أيام معدودات فحسب وإلا لن يتحقق المقصد من عبادة الصيام .
ومعلوم أن من يجرؤ على ما نهى الله عز وجل في شهر الصيام ،يكون أكثر جرأة على ذلك بعده ، وهو ما يعني عدم استفادته من الدورة الاستشفائية السنوية المتاحة له بحيث يظل على حاله التي كان عليها قبل شهر الصيام، وتلك خسارة لا تعوض خصوصا وأن صاحبها لا يدري هل سيمد له في عمره ليدرك فرصة صيام أخرى ؟ و الأكثر خسارة منه من يتقبل الله تعالى منه صيامه المحقق للمقصد ، وينال جائزة مغفرة ما تقدم من ذنبه، لكنه يضيع جائزته مباشرة بعد شهر الصيام بعودته إلى الوقوع فيما نهى عن الله عز وجل من جديد ، وهذا أيضا لا يدري هل سيبلغه سبحانه وتعالى رمضان مرة أخرى ؟
وأخيرا نسأل الله عز وجل أن يعيننا على صيام تتحقق لنا به تقواه كما يرضيه ، ويرضاه لنا ، وأن يجعل حالنا بعد رمضان كحالنا خلاله استقامة وقد صحّ صيامنا وقبله منا سبحانه وتعالى.
وسوم: العدد 976