(( تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ))
من المعلوم أن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان ليبتليه ، وجعل ابتلاءه عبارة عن تدين تتجلى من خلاله طاعته له ، واستقامته على صراط مستقيم حدّد له معالمه. وهذه الطاعة هي قوام الدين الذي ارتضاه له . وإظهار الإنسان لطاعة خالقه سبحانه وتعالى تتجلى من خلال كل سعي يسعاه وهو يخوض غمار الحياة خلال الأجل المحدد له . وهذه الطاعة تشمل ما تعبده به خالقه عز وجل من عبادات ومن معاملات. وعلى رأس تلك العبادات عبادة الصلاة ،وهي صلة جعلها الله تعالى بينه وبين عباده المؤمنين يومية في أوقات متتالية ليل نهار ليظلوا ملازمين لتلك الصلة التي هم أحوج ما يكونون إليها بحيث يناجون خالقه ، ويسألونه خلالها ما هم مفتقرون إليه من نعمه الظاهرة والباطنة ، ومن سعة رحمته .
ولقد افترض عليهم خالقهم صلاة مفروضة واجبة هي عبارة عن قاطرة إذا استقامت على سكتها استقام كل ما يليها مما تجره خلفها ، لهذا قال عنها الله عز وجل (( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )) ،ومعلوم أن الفحش والمنكر قد يلابسان كل سعي يسعاه الإنسان ، ولا سبيل إلى خلاصه منهما إلا بهذه الصلاة النهاية والمتواصلة ليل نهار .
ولمّا كان لهذه العبادة هذا الدور الذي هو في غاية الأهمية ، فقد حبّب الله تعالى لعباده الاستزادة منها عما افترضه عليهم، وهي عبارة عن نوافل ، وقد عدّدها لهم ، وأغراهم بأعظم الأجر عليها . ومن تلك النوافل صلاة القيام ، وهي صلاة تؤدى بليل ، ومنها ما هو سنة مؤكدة كقيام ليالي رمضان ، ومنها ما هو تطوع في سائر الليالي .
ومعلوم أن الله عز وجل جعل نهار الإنسان معاشا تتخلله لحظات تعبد بصلاة مفروضة ونوافل ، وجعل ليله لباسا يكون أيضا في أوله صلاة مفروضة وصلاة قيام في باقي أجزائه. ولقد أثنى الله عز وجل على عباده الذين يمارسون صلاة القيام وهم أهل عزيمة يتركون فرشهم الناعمة والناس نيام من أجل القيام لله تعالى بهذه الصلاة في جوف الليل، فقال في وصفهم : (( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدا وسبّحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )) . ففي هذه الآيات حصر الله تعالى الإيمان بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم في عباده الذين إذا ذكّروا به أظهروا له خضوعهم سجودا وتسبيحا بحمده على ما تتضمنه آياته المنزلة من تذكير لهم يسموا بهم إلى أرقى وأعلى درجات الإيمان ، وهم بذلك خلاف الذين يذكّرون بها لكنهم يستكبرون عن التذكّر، فلا يحدث فيهم التذكير أثرا ، ولا هم يخضعون ساجدين مسبحين بحمد خالقهم .
ومن صفات المؤمنين من أصحاب المراتب العليا في الإيمان أنهم إذا هجع الناس ، وآووا إلى مضاجعهم تجافت جنوبهم عنها وانصرفوا إلى صلاة الليل أو صلاة القيام لمناجاة خالقهم ، يفعلون ذلك طمعا في عفوه ومغفرته ورحمته ، وخوفا من عقابه وعذابه ،لأنهم أكياس نشئوا على إدانة نفوسهم ، وهم يعلمون أن التقصير منهم لا يخلو منه سعي يسعونه سواء كان ذلك في عباداتهم أم في معاملاتهم . والذين يبلغون هذه الدرجة من سمو الإيمان يحليهم ربهم سبحانه وتعالى بصفة الجود والكرم ،فينفقون في سبيله ليزداد سمو إيمانهم ، وفي ذلك تعبير عن وقاية أنفسهم من شح يجعلها رهينته ، ويصرفهم عما هو أسمى من تعلقها بعرض الدنيا الزائل ، وحملها على التطلع إلى ما لا زوال له من نعيم الآخرة ، ويكون بذلهم وعطاؤهم في الدنيا ثمنا لذلك النعيم . وما كانت نفوس هؤلاء لتصل إلى ذلك المستوى من السمو لولا تجافي الجنوب عن المضاجع من أجل صلاة القيام في ليل تسكن فيه كل الكائنات ، ويكون الظرف جد مناسب لمناجاة الخالق جل في علاه لسيادة السكون فيه ، وهو ما لا يتأتى في صخب وحركة النهار الشاغلين عن الانصراف التام لمناجاته جل في علاه . ومقابل هذا الذي يكون من التجافي عن المضاجع، وعد الله تعالى عباده القائمين له بالليل أجرا عظيما لا يمكن أن يخطر على قلب بشر فقال جل شأنه : (( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون )) . فإذا كانت الأعين تقر في الحياة الدنيا بزينتها الزائلة فما بالها إذا رأت زينة الآخرة الدائمة التي أخفاها وغيّبها الله تعالى عن الخلق في الدنيا بحيث لا يمكن أن تدركها عقولهم ،ولا ما يخطر على قلوبهم ، ولا ما تتصوره أخيلتهم كما جاء في ما رواه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل حيث قال: قال الله تعالى : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما أطلعتهم عليه ، اقرءوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" . ومعلوم أن القرآن الكريم تضمن أوصاف ما تقر به الأعين في الآخرة إلا أن النفوس لا يمكنها أن تدرك من ذلك شيئا على وجه الحقيقة لأنها تنطلق مما ألفته في الدنيا ، وهو ما لا يرقى إلى ما في الآخرة .
وما ذكر الله تعالى ذلك الجزاء الذي لا يخطر على قلب بشر إلا ليحث عباده على صلاة القيام ليلا ، وتفضيلها على لذة المضاجع . وحري بمن يقرأ قوله تعالى في وصف هذا الجزاء المحيّر للعقول أن يعوّد النفس على هذه الصلاة .
ومن عون الله تعالى لعباده على تعويد أنفسهم على هذه الصلاة أنه سن لهم صلاة التراويح في شهر الصيام لتكون لهم دورة تكوينية على صلاة القيام في باقي ليالي السنة ،لأنه يريد لهم ذلك الأجر العظيم الذي ادخره لمن عوّد النفس عليها ، وطوعها لذلك .
مناسبة حديث هذه الجمعة فرضه ظرف الدورة التكوينية على صلاة القيام في هذا الشهر الفضيل ، وذلك لتذكير المؤمنين باغتنام فرصة هذه الدورة من أجل التعود على صلاة الليل بعد انصرام ليالي رمضان طمعا فيما أعد الله عز وجل من أجر عظيم لأصحاب هذه الصلاة . وإنه لممّا تبتهج به النفس المؤمنة معاينة إقبال المؤمنين الكبير على صلاة القيام في ليالي رمضان مع أسفها الشديد على غفلة بعضهم عنها وانشغالهم بالسهر العابث . ومما يدعو إلى التفاؤل الكبير تجديد كثير من العباد صلتهم ببيوت الله عز وجل، وبالصلاة فيها طيلة هذا الشهر المعظم ، وهو ما ينبري له البعض بالنقد متهمين ضيوف الله عز وجل النازلين بضيافته في بيوته بأنهم عبّاد رمضان ، والحقيقة أنهم عبّاد الله عز وجل قد وفقهم سبحانه إلى الإقبال عليه ، وعسى أن تتحقق بذلك إنابتهم التي يرتضيها لهم . وإنه لمن تثبيط عزائمهم نعتهم بعبّاد رمضان، والقدح في إنابتهم مع أن علمهم عند من يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى ، ولا يدري هؤلاء القادحون فيهم ما هو فاعل بهم سبحانه ، وبما يختم لهم إن غرهم ارتيادهم بيوته دون غيرهم ، وظنوا بأنفسهم تفوقا وامتيازا عمن ينعتونهم بعباد رمضان . والأجدر بهم أن يحسنوا استقبالهم عسى أن يكون ذلك عونا لهم على ملازمة بيوت الله عز وجل بعد انصرام شهر الصيام لأنه من بركته أن يئوب خلاله كثير من الناس إلى ربهم ، ويتوبون إليه توبة نصوحا ، وما ذاك إلا بتوفيق منه سبحانه وتعالى .
وعلى كل مؤمن أن يحدث نفسه بأجر عبادة يتجافي جنبه عن مضجعه في رمضان وبعده ، والكيّس من يحصل له ذلك وهو يتلو قوله تعالى : (( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون )) .
اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى ما يبلغنا ما أخفيت من قرة أعين ، ولا تحرمنا هذا الجزاء العظيم . اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا ، وحبّبهما إلى نفوسنا ، واجعل أعيننا تقر بهما ، وحبّب إلينا الإنفاق في سبيلك بسخاء ، واجعل أنفسنا مقبلة عليه طاعة لك وتقربا منك ، وطمعا فيك ، وخوفا ورهبة منك آمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 976