( أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )
من المعلوم أن الله عز وجل قد عدّد صفات عباده المؤمنين في الذكر الحكيم ، وذلك في أكثر من موضع إشادة بصدق عبوديته ، وطاعتهم له . وغالبا ما يعقب تعداد صفاتهم ذكر الجزاء المخصص لهم في الآخرة . وأفضل أجر أعده لهم سبحانه وتعالى هو نعمة المغفرة ، وهي عدم المؤاخذة بما فرط من ذنوبهم ، علما بأن العباد لا يمكن أن ينجو أحد منهم من اقتراف الذنوب ، لهذا إذا ما غفرت ذنوبهم كان ذلك نعمة ومنة كبرى من خالقهم سبحانه وتعالى . وفضلا هذه المنة العظيمة ، يتفضل عليهم جل شأنه بأجر وصفه بالعظيم ، وهي صفة مشبهة تفيد الثبوت ، وهي تدل على متعدد صفات منها الهائل ، والفخم ، والكبير ، والوفير ... والذي لا حد ولا نهاية له . ومن جمع الله عز وجل له المغفرة والأجر العظيم كان ذا حظ عظيم .
ولقد خص الله تعالى بهذا الحظ العظيم عباده الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى :
(( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما )) . هذه عشر صفات أشاد بها الخالق سبحانه وتعالى ، وخص أصحابها ذكورا وإناثا بمنة المغفرة ، وبالأجر العظيم الذي هو جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وهل يوجد أجر أعظم من هذا الذي لم يره عين ، ولم يسمع به أذن ، ولم يخطر على قلب ، وهو العجب العجاب .
ولقد تتابعت هذه الصفات بدءا بالانتساب إلى الإسلام ، وانتهاء بذكر الله الكثير مرورا بالانتساب إلى الإيمان ، والاتصاف بالقنوت لله تعالى ، والصدق ،والصبر ، والخشوع ، والتصدق ، والصوم ، وحفظ القرج . وعند التأمل في هذه الصفات الحميدة الدالة على العبودية الحقة لله تعالى نجدها متكاملة متداخلة يفضي بعضها إلى بعض ، ذلك أن الإسلام بأركانه الخمسة، هو مدخل للإيمان بأركانه الستة ، وفي حظيرة هذا الأخير تجتمع باقي الصفات وهي : القنوت الذي وهو منتهى طاعة الله عز وجل ، والصدق وهو الوفاء بكل الالتزامات معه جل شأنه ، والصبر وهو حبس النفس عما يفل من عزمها ، وتحملها المشاق من أجل إقامة الدين والدفاع عنه ، والخشوع وهو خضوع لله تعالى قلبا وجارحة مع خشيته ، والتصدق وهو بذل وعطاء يعطى للمحاويج ، ويراد به وجه الله تعالى ، والصوم وهو رياضة النفس على الطاعة من خلال التحكم في أعنف شهواتها ، و حفظ الفرج وهو تحكم أيضا فيها ، والذكر الكثير لله تعالى الذي يكون باللسان والحال معا مما يعني استحضار دائم لمعيته ورقابته جل في علاه .
وإذا ما تأملنا صفة الصوم الواردة في هذه الآية الكريمة نجدها موصولة بكل الصفات المذكورة معها ، ذلك أن الصوم هو ركن من أركان الإسلام التي بها يكون العبد مسلما ، وهو موصولة بالإيمان صلة الإسلام به ، وقوامه اعتقاد تصدقه عمليا وإجرائيا كل الصفات المذكورة في الآية الكريمة ومنها الصوم وقد جاء في الحديث : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ذلك أن الصائم لا يصوم إلا وهم مؤمن صحيح الاعتقاد بأركان الإيمان. ويتواصل الصوم بعد ذلك مع باقي الصفات الأخرى، ذلك أن الصائم مطيع لربه سبحانه وتعالى بصومه، وهو بذلك قانت له، كما أنه صادق معه إذ لا يلابس صومه رياء، لهذا قال الله تعالى فيما رواه الرسول صلى الله عليه وسلم عنه : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به "، وهو صابر على كل ابتلاء يبتلى به ، وهو خاشع وخاضع لربه بحبس النفس عن شهواتها حافظا لفرجه لا يستبيحه إلا فيما أحل الله تعالى له ، ومن كان حافظا له حتى فيما أحل له وهو صائم فهو أشد حفظا له فيما حرمه عليه ، وهو أكثر ذكرا لله تعالى إذ كيف يغيب عنه أو يغفل عن معيته ، وهو وحده سبحانه المطلع على صومه الذي لا يمكن أن يلابسه الرياء .
ومن خلال هذا الربط بين صفة الصوم وباقي الصفات ،يتبين لنا دوره المحوري وإن كان ترتيبه الثامن بين تلك الصفات التي جاءت كلها في صيغ جموع سالمة تذكيرا وتأنيثا . ولقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية هو تشوق بعض الصحابيات الجليلات إلى نزول قرآن يذكرهن كذكر الصحابة ، فاستجاب لهن الله عز وجل بهذه البشارة العظمى ، وجعل ثوابهن كثوابهم مغفرة وأجرا عظيما ، ومما في هذا الأجر من امتياز خاص ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن في الجنة بابا يقال له الريّان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، يقال أين الصائمون ؟ فيقومون ، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد " .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بعظم قدر عبادة الصيام عند الله عز وجل وذلك من أجل حثهم على أدائها على الوجه الذي يرضيه مستحضرين ما أعد لهم من مغفرة ومن عظيم الأجر والثواب حري بمن رغب فيه يحرص على اتقان صيامه بترك مفسداته أقوالا وأفعالا حتى لا تضيع منه الجائزة التي أعدها الله عز وجل لمن يقبل صومهم وهي مغفرة وعتق من النار ، والفوز بالجنة والولوج إليها من باب الرّيان الخاص بالصائمين والصائمات، ونعم المولج ، ونعم المنزل ، ونعم المقام ، ونعم النعيم الدائم .
اللهم إنا نسألك فضلا منك وجودا أن تجعلنا من أصحاب هذه الخصال العشر ، وأن تجعل مقامنا في الآخرة معهم ، وأن تسبغ علينا من نعمك مغفرة وأجرا عظيما .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 977