ليلة القدر .. تصحيح تصور، في حقيقة ليلة القدر، وحقيقة إدراكها أو رؤيتها
ليلة القدر في الإسلام هي ليلة عظيمة الشأن، ورد في شأنها سورة باسمها في القرآن الكريم "سورة القدر". وأخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أن العبادة والتبتل والقيام فيها خير من عبادة ألف شهر. وأن الملائكة مع سيدنا جبريل يتنزلون فيها بكل ما يشاء الله من خير وعطاء، وأنها ليلة للسلام والسكينة من أولها حتى مطلع فجرها.
وكان أول الخبر عنها في سورة القدر، أن أخبرنا ربنا سبحانه وتعالى أن القرآن الكريم قد أنزل في ليلة القدر، (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) والضمير المنصوب في قوله أنزلناه، يعود على القرآن الكريم، بدلالة العهد الذهني، ويختلف العلماء في تأويل هذا "الإنزال" فبعضهم يرى أن المقصود بداية التنزيل، مادمنا نعلم أن القرآن الكريم قد نزل منجما أي مفرّقا، على مدى سنوات الرسالة. فيقولون: إن أول ما أنزل من القرآن الكريم كان في ليلة القدر. وتعينت ليلة القدر احتفاء بنزول القرآن الكريم. ويرى فريق آخر من العلماء أنه كان للقرآن الكريم تنزلان، الأول من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، حيث أنزل إلى هناك بهذه الحفاوة وهذا التكريم، تحفه الملائكة والروح، نزل جملة واحدة، ثم تم تنجيمه بأمانة الروح الأمين، وهذا القول يتواءم أكثر مع قوله تعالى "أنزلناه". يعني كلَّه على الحقيقة وليس على المجاز.بالتعبير بالكل عن الجزء، عندما نقول حسب التفسير الأول: إن التنزل الأول كان لآيات منه.
ثم نقول..
جوابا عن السؤال الذي يطرحه بعض الناس، أو يحوم حوله آخرون :ما هي حقيقة ليلة القدر؟ !
هل هي حقيقة كونية فيزيائية،تتجلى في مشاهد محددة، يراها الناس بأبصارهم، ويراها كل من تابعها، مؤمنا كان أو غير مؤمن، صالحا كان أو طالحا؟؟ بمعنى أكثر وضوحا ومباشرة: هل نستطيع لو رصدنا عبر مراصد وتيلسكوبات على مدى ليالي رمضان جميعا، أن نرصد تسجيلا مصورا لتجليات ليلة القدر في ساعة ما فنرصد صورا غرائبية ربما يتحدث عنها بعض الناس؟؟
أظن أن هذا ا لسؤال يحمل جوابه، ولا نظن أن هناك من قال به أو زعمه..!!
وكل ما جاء في وصف التغير الكوني في وصف ليلة القدر، حديث شريف صحيح تحدث عن صباح ليلة القدر، أن الشمس تطلع في صباحها بيضاء لا شعاع لها. ولا شيء يقيني شرعي علمي يصف لنا مشاهد ليلة القدر، كشريط صور فيزيائي أو سينمائي
روى أصحاب الصحاح عن السيدة عائشةرضي الله، أنها سألت عن ليلة القدر بلفظين، حسب الرواة: مرة قالت تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن "وافقت" ليلة القدر، وبتعبير آخر روي : أرأيت إن "علمت" أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها..؟؟
لاحظ الدقة اللفظية، لم تسأل: ماذا لو رأيت ليلة القدر؟؟ في الروايتين لم تعبر بالرؤية، عبرت "بالموافقة" وعبرت "بالعلم" ، حالة من الإدراك الشخصي يجعلها تدرك أنها في ليلة القدر ، وأنها تسأل ماذا تقول!!
ولو عبرت أمنا عائشة رضي الله عنها بالرؤية، أي لو سألت هكذا : يا رسول أرأيت، لو رأيت ليلة القدر، فماذا أقول؟؟ لحق لنا أن نتساءل: هل الرؤية التي تسأل عنها بصرية أو قلبية؟؟
وهذا سؤال يطرح نفسه بقوة على ما يتداوله الناس عندما يتحدثون عن "رؤية" ليلة القدر. هل الرؤية المقصودة بصرية أو قلبية
يصف بعضهم أنه رأى نورا منتشرا في السماء، يقول آخر إنه رأى نورا غامرا يغمر كل ما حوله، يقول ثالث: إنه رأى الكائنات كلها في نظام ترتيب مختلف، يرى رابع كل شيء يسبح ويذكر الله. كل شيء حتى الجبال والأشجار تؤوب، كما أوبت مع داود..
كل هذه الرؤى وإن كانت في ظاهرها بصرية، فهي في حقيقتها رؤى قلبية، تتناسب وحال الرائي. وقد يكون جارك الذي بجوارك في الصلاة في حال وأنت بعيد عنها. وأجمل حالك أن تكون من القوم لا يشقى جليسهم، أو تكون جليسهم.. نقول يارب..
لعلنا نراهم أو نرى من نراهم..
المهم أن نعلم أن ليلة القدر هي ليلة لطلب الفضل والعفو والمغفرة والدعاء بالخير. ليلة القدر هي ليلة للسلام فلا تدعُ فيها بقطيعة ولا بظلم..
وعندما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلى ما تقول في تلك الليلة إن وافقتها قال: قولي اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني. نطلب الخير وتفريج الكرب وأن يعم السلام وأن تُكف يد الشر وأن يفك أسر المأسورين ويحسن خلاص المسجونين.. كل ذلك مما يُدعى به في ليلة السلام.
المطلب الذي يعنينا من ليلة القدر هو حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له.
فقيام هذه الليلة موسم إضافي للعبد لكي ينال فيه المغفرة، ويزداد منها من الفضل. ليلة القدر هي ليلة من ليالي رمضان، وهي ليلة من ليالي العشر الأواخر فيه، وهي في ليالي الوتر آكد ..
وفي الصحيح من صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه..
ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
إيمانا تعني: إيمانا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ..
إيمانا بالله وتصديقا برسوله الذي بلغنا بوجوب : صيام رمضان (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ).
واحتسابا: يعني أننا نفعل ذلك طلبا للأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى..
ومجرد قيام العبد لهذه الليلة المباركة، والقيام يعني أن يخصّ هذه الليلة بمزيد صلاة وذكر وقراءة قرآن ودعاء، ولاسيما في ساعات الثلث الأخير من الليل، يكون قد أصاب إن شاء الله من خير هذه الليلة، سواء شعر بحقيقة التجليات التي يعيشها -ربما - غيره من الناس أو لم يشعر. فلا معنى للخيبة التي يعيشها بعض الناس حين يظنون أن هذه الليلة قد فاتتهم، وأن مولاهم لم يتجلَّ عليهم...
لكل مجتهد ،إن شاء الله، من الخير نصيب. وأهم المهم إخلاص النية وتجريدها احتسابا لوجه الله تعالى.
ليلة القدر ليلة تمر في العام، وكل عام، وهي خير من ألف شهر، وبعض الناس كل لياليهم ليلة القدر..
وفي الثلث الأخير من كل ليلة ينادي ربنا علينا: هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مسترحم فأرحمه، هل من مسترزق فأرزقه..
وإذا علمنا أن كل لحظة بالنسبة لسكان الأرض المنتشرين على خطوط الطول هي من الثلث الأخير من الليل؛ علمنا أن النداء الرباني دائم لا ينقطع ..
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا، وعنا آبائنا وعن أمهاتنا، وعن إخواننا، وعن أخواتنا.. وعن كل من دعا بعفو من عبادك..
وسوم: العدد 978