( ود كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )
من المعلوم أن التصنيف الإلهي للبشر كما جاء في الرسالة العالمية الخاتمة المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم هو أصح وأدق تصنيف على الإطلاق ، وأن باقي التصنيفات البشرية إنما هي ظنون وأهواء لا تغني من الحق شيئا .والرسالة الخاتمة لا تبالي برفض الرافضين التصنيف الإلهي للبشر لأنه الحق من عند الله عز وجل ، ولهذا يعتبر المسلم في هذا التصنيف مسلما ، والمؤمن مؤمنا ، والمحسن محسنا ، والكافر كافر ، والمشرك مشركا ، والمنافق منافقا باعتبار ما يعتقدون ، أما باعتبار أنواع سلوكم ، فهناك تصنيفات أخرى لهم في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ويكشف القرآن الكريم عن مشكل أهل الكتاب من يهود ونصارى مع الرسالة الخاتمة التي يرفضها الكثير منهم باستثناء قلة قليلة لا مشكل لها معه . وأما مرد المشكل بالنسبة لمن يرفضونه ، فهو تصديقه لما بين يديه من توراة وإنجيل وهيمنته عليهما ، وهذه الأخيرة هي ما لا يرضاه الكثير منهم .
ومعلوم أن الكثرة من أهل الكتاب التي لديها مشكل مع القرآن الكريم ، والقلة التي لا مشكل لديها معه كلهم يقرون في قرارة أنفسهم أنه الحق من عند الله عز وجل إلا أن المكابرة تجعل المكابرين منهم ينكرون هذه الحقيقة علنا عكس ما هم عليه باطنا ، وقد أخبر الله عز وجل رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بحالهم هذا حيث قال : (( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون)) ، ومعلوم أن الجحود هو إنكار أمر في الظاهر مع الإقرار به في الباطن .
ولقد صنف الله تعالى أهل الكتاب إلى مؤمنين وكفار ، فقال عن المؤمنين منهم : (( وإذا سمعوا ما أنزل على الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) كما قال عن الجاحدين المكابرين : (( ولو أتيت الذين أتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك )).
ومعلوم أن الكثرة الكاثرة من أهل الكتاب يكابرون ويعاندون في أمر الحق الذي جاءت به الرسالة الخاتمة ، والتي كان من المفروض أن يؤمنوا بها وهي مصدقة لما بين يديها مما أنزل عليهم . ولقد ترتب عن مكابرتهم وعنادهم حسد في أنفسهم تجاهها ،وتجاه من أنزلت عليه ، وتجاه من يؤمنون بها ،وهو ما ذكره الله تعالى في قوله : (( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبّن أنه الحق )) ، و الود أو الوداد ههنا بمعنى التمني، ذلك أن هؤلاء لا يرغبون في تبعية المسلمين لدينهم ، ولا يرضونهم شركاء لهم فيه بل يتمنون لو أنهم عادوا كما كانوا قبل إسلامهم كافرين ومشركين ، وذلك بدافع الحسد لأن الحسد هو تمني زوال ما بالغير من خير أو نعمة ، ولما كان الإسلام وهو دين الله الحق إنعام منه سبحانه وتعالى على عباده المؤمنين ، فإن كثيرا من أهل الكتاب يتمنون زوال هذه النعمة عنهم ليعودوا إلى ما كانوا عليه من ضلال مبين . ولا يستقيم أن يكون غرض هذه الكثرة من أهل الكتاب استمالة المؤمنين إلى ما هم عليه من اعتقاد ، لأنه حينئذ لن يبقى مبرر للحسد الذي ذكره الله سبحانه وتعالى ، وهو حسد متأصل فيهم لا ينفك عنهم إلى نهاية العالم وقيام الساعة خصوصا وأن الرسالة الخاتمة إنما جاءت للناس كافة إلى يوم الوقت المعلوم ، وحسد الكثرة الكاثرة من أهل الكتاب لا يختلف فيه خلف عن سلف على الدوام ، فهم سواء في ذلك إلا من عرف واعترف منهم بالحق ممن استثنى الله عز وجل في محكم التنزيل .
ومن فضل الله تعالى على عباده المؤمنين إذا ما ودّ كثير من أهل الكتاب ردهم كافرين بعد إيمانهم أنه بعد أن حذرهم من حسدهم، وما قد يترتب عنه من سوء أو ضرر أو خسارة ، فإنه في نفس الوقت أمرهم بالإعراض عنهم فقال : (( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير )) ، وأمره سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالعفو والصفح عما يتمناه كثير من أهل الكتاب لهم من عودتهم إلى ضلال الكفر والشرك إنما جاء لتخليقهم بأخلاق القرآن الكريم الحميدة ، ذلك أن الأصل في من يناله حسد من حاسد لا شك أنه يكرهه ، ويجد عليه أشد الموجدة ، وقد يفكر في الانتقام منه لكن الله تعالى صرف المؤمنين عن التفكير في الانتقام من الذين يودون ردهم كافرين بعد إيمانهم ، وتعهد بأن يتولى سبحانه أمرهم بنفسه لأنه أقدر عليهم وهو القادر على كل شيء . ولقد سجل القرآن الكريم قدرته سبحانه وتعالى على حساد رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ، بعدما عفا وصفح عنهم عليه الصلاة والسلام كما كان حال بالنسبة لبني النضير وبني قريظة ،وكان فيما حل بهم ذهاب غيظ قلوب المؤمنين .
ويتعين على المؤمنين في كل عصر ومصر أن يسيروا على نهج وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم في التعامل مع كثير من أهل الكتاب الذين يودون أن يرونهم بعد إيمانهم كفارا حسدا من عند أنفسهم، وذلك بالحذر من حسدهم وكيدهم وأن يعرضوا عنهم خصوصا وأن الله تعالى قد تعهد بالتكفل بأمره كيدهم ، ويفيد ذلك استعمال لفظة " حتى" في قوله تعالى : (( حتى يأتي الله بأمره )) ،وهي لفظة تفيد الغاية .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى ما يحاك ضدهم من مؤامرات من طرف من يودون صرفهم عن دينهم ، وعن صراط ربهم المستقيم بشتى أساليب المكر والخداع والدسائس التي يموهون عليها بشعارات كاذبة مكشوفة والتي لم تعد خافية على الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها .
وعلى الأمة الإسلامية أن تكون حذرة ويقظة ، وأن تعول على مجيء أمر الله تعالى والثقة فيه كما كانت ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثقة صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ، وإن العاقبة للمتقين .
اللهم إنا نسألك يقينا في دينك ، وتمسكا به ، ونسألك هداية منك تعدي بها قلوبنا إلى الثبات على الحق المبين ، ونسالك أن ترد على الكائدين لدينك كيدهم في نحورهم ،فإنهم لا يعجزون قدرتك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 984