( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكنهم كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )
من المعلوم أن الله عز وجل قد بيّن في كل الرسالات المنزلة من عنده بما فيها الرسالة العالمية والخاتمة الموجهة إلى الناس أجمعين إلى يوم الدين أن أرزاقهم في هذه الحياة الدنيا مشروطة بإيمانهم وتقواهم . وقد ترددت هذه الحقيقة في أكثر من موضع في الذكرالحكيم ، ومنها قوله تعالى : (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكنهم كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) ، ففي هذه الآية الكريمة، يتضح ربط الله عز وجل بين فتح البركات لأهل القرى من السماء والأرض ، وبين إيمانهم به واتقائه ، وفيها أيضا مقابل فتح البركات بالأخذ الذي هو الانتقام والعقاب .
وبيان حقيقة هذه الآية الكريمة كما ذكرت كتب التفسير أن سبب نزولها هو ما كان عليه أهل مكة أم القرى من تكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان حال الأمم السابقة المكذبة بما جاءت به رسلهم . أما الأمم السابقة، فكان الله تعالى يفتح عليها بركات من السماء والأرض ، ويحييها حياة الرخاء والعيش الكريم إلا أنها كانت تكذب رسله ، وتكفر به وبنعمه ، وتشرك به غيره ، وتستعين بنعمه على معصيته ، وبعد تحذيرها من زوال النعم ،كان ينزل بها عقابه الأليم، فتنقلب النعم إلى نقم ، وكان معظمها يؤخذ الأخذ الوبيل ، وينزل به الهلاك .
ولقد حذر الله تعالى كفار قريش من أخذهم بعد تكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن أخذهم أنه سلّط عليهم القحط سبع سنين في حين كان المسلمون في المدينة المنورة ينعمون برغد العيش ، وكان في ذلك آية لكفار قريش وللمؤمنين على حد سواء تؤكد أن فتح بركات السماء والأرض إنما يكون بالإيمان بالله تعالى وتقواه ، وأن زوالها إنما يكون بالكفر والعصيان .
ولمّا كانت الرسالة الخاتمة للعالمين ، وكانت العبرة بعموم لفظها لا بخصوص أسباب نزولها ، فإن ارتباط فتح بركات السماء والأرض بالإيمان والتقوى سنة إلهية جارية إلى نهاية هذا العالم ، وأن زوالها مرده إلى الكفران والعصيان .
وإذا ما تأملنا قول الله تعالى : (( ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات السماء والأرض )) لوجدنا أن الفتح في اللسان العربي يدل حقيقة على إزالة ما يحول دون الولوج إلى ما فيه منفعة ، والفتح في قوله تعالى استعارة حيث شبهت بركات السماء والأرض بالحيز المغلق الذي يفتح لينتفع بما فيه ، وهو فتح مشروط بإزالة ما يحول دون حصوله من كفر وعصيان .
وإذا ما تأملنا قوله تعالى : (( ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون )) لوجدنا أن التكذيب وهو الكفر والمعاصي مما يجلب أخذ الله عز وجل، ويكون إما بعذاب مهلك أو بإغلاق ما يفتح سبحانه وتعالى من بركات السماء والأرض .
وحتى لا يظن ظان أن هذا الذي ذكره الله تعالى من فتح وأخذ هو مجرد إخبار عما كان ، وأنه لا يمكن أن يكون فقد عقب بقوله جل وعلا : (( أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون )) . إن هذه الآية الكريمة تشمل مطلق أهل القرى إلى قيام الساعة ، وأنها تدل على أن الفتح والأخذ سنة إلهية سارية في الخلق إلى يوم البعث ، ولو استقرأنا التاريخ بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأكدنا من ذلك ، كما أن الواقع المعيش اليوم يؤكد لنا ذلك وإلا كيف نفسر استغلاق بركات السماء والأرض الذي يعرفه عالمنا اليوم أليست الكثرة الكاثرة من الناس في المعمور كافرة كفرا بنوعيه إما إنكار وجحود بالخالق سبحانه وتعالى أو شرك به ؟ أوليست الكثرة الكاثرة من المؤمنين اليوم متورطة في شتى أنواع المعاصي لا تتقي غضب الله عز وجل وهي تأمن مكره ؟ إن شروط منع فتح بركات السماء والأرض، وشروط الأخذ متوفرة في زماننا هذا بامتياز ، ومعظم الناس في هذا يأمنون مكر الله عز وجل وهم على حالهم من الكفر والعصيان ، وهم بذلك في خسران مبين لكنهم لا يشعرون .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير أمة الإسلام والإيمان بما حذر منه الله عز وجل من حجب بركات السماء والأرض عن الناس إما بكفرهم أوبعصيانهم . وإذا كان المؤمنون قد هداهم الله عز وجل إلى الإيمان ، ونجّاهم من الكفر ، فإ‘ن عليهم ألا يتورطوا في المعاصي لأن الله تعالى ذكر الإيمان مقترنا بالتقوى ، وجعلهما معا سببا لفتحه بركات السماء والأرض ،كما جعل الأخذ مقترنا بالكفر والعصيان .
وإننا معشر المسلمين اليوم إذ نشكو ضيق العيش ، وحلول الغلاء محل الرخاء وهو ما ينذر بما لا تحمد عقباه لا نفكر في مراجعة أنفسنا على ضوء ما حذرنا منه ربنا سبحانه وتعالى من أسباب حجب بركات السماء والأرض . ووالله ليس أمامنا إلا التوبة النصوح من كل معاصينا الحاجبة لهذه البركات ، وليكن استغفارنا على قدر شكاتنا من الغلاء ، ولنستحضر أولا أننا نحن من أغلقنا ما فتح الله تعالى منها ، وذلك بما كسبت أيدينا . وإذا ما اشتغل غيرنا بالخوض في أسباب أخرى لما نحن فيه من ضائقة ، فعلينا أن نذكر الحقيقة التي أنزلها الله تعالى في كتاب لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلف مما يأتي غيره من أقوال البشر عسى الله عز وجل أن يفتح ما استغلق بتقوانا وبتوبتنا النصوح قبل أن تسير الأمور إلى ما هو أسوأ لا قدر الله .
اللهم إنا نستغفرك ، ونتوب إليك من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا وأقوالنا ، ونسألك برحمتك أن ترفع عنها ما يحول بيننا وبين فتح بركاتك من السماء والأرض . ربنا لا تجعلنا من الخاسرين الذين لا يأمنون مكرك يا ارحم الراحمين . اللهم عجل لنا برخاء بعد هذا الغلاء ، وبفرج بعد هذا الضيق ، وبأمن بعد هذا الخوف.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 990