شعاع من ذكرى الهجرة النبوية
تبقى هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه منارة تشعّ بالدروس والعبر. وقد حفلت الكتب والدوريات والخطب والمحاضرات بكثير من النور.
وإن مما يستوقف المسلم أمام هذا الحدث الضخم أن يسأل: ما الحكمة أنْ تَعَرّضَ النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لأنواع من الضيق والأذى من قومه حتى كانت الهجرة هي الخلاص من تلك الفتنة؟!. لقد كان الله سبحانه قادراً أن يهدي القوم خلال هذه السنين الثلاثة عشر. نعم، ولكن حكمته تعالى اقتضت أن تكون طريق الإيمان مرصودةً بالفتنة: (أحَسِبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا: آمنا، وهم لا يُفتَنون؟. ولقد فَتنّا الذين من قبلهم. فليعلَمَنَّ اللهُ الذين صدقوا، وليعلمنَّ الكاذبين). {سورة العنكبوت: 2 و3}.
إنّ البذل في هذه الدعوة، والصبر على أذى أعدائها، وتحمّل الأذى في الأموال والأنفُس... هو الذي يكشف حقيقة الإيمان في نفس المؤمن. وهي سنّة الله في طريق المؤمنين عبر العصور. ولو كان جيل منهم جديراً بأن يُعفى من هذا الامتحان لكان جيل الصحابة. لكن هذا الجيل تحمّل ما لا تتحمّله الجبال. وليس غائباً عن علمنا ما تلقّاه بلال وآل ياسر وزنّيرة وغيرهم، رضي الله عنهم، أو ما تلقّاه الصحابة مجتمعين في شعب أبي طالب، بل ما تلقّاه النبي صلّى الله عليه وسلّم نفسه من الأذى... حتى كانت الهجرة خلاصاً من الأذى وفتحاً لأفق جديد للدعوة.
ثم إن الهجرة ليست مغادرة للوطن فحسب، وهي أمر شاق، لكنها كذلك أخلاق عليا يتمثّلها المؤمن، وقد ظهرت في أخلاق المهاجرين والأنصار، على السواء، على مستوى لم تعهده البشرية في غير ذلك الجيل، وإن وُجد في أفراد من هذه الأمة، في عصورها المتتابعة، على مستويات تُذكّر بذلك الجيل الفريد. ويبقى هؤلاء الصحابة، من مهاجرين وأنصار، منارة للأجيال كلها، وأسوة لمن طلب المعالي. ولنتأمّل هذه النصوص والوقائع:
- كان الأنصاري يشارك أخاه المهاجر داره وماله، وهو راضٍ بذلك. وكان المهاجر يتعفّف فلا يأخذ إلا بقدر الحاجة، وقد تطهّرا من الشحّ، ووضعا ما يملكان من مال ونفس في نصرة دين الله: (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله. أولئك هم الصادقون)، فهذا معيار صدق المهاجر، (والذين تبوّؤُوا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون مَن هاجرَ إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا. ويُؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خَصاصة)، فلم يكن الأنصار جميعاً أهل يسار ودثور، لكن قلوبهم غنيّة بالإيمان وبأخوّة الإيمان، (ومَن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون). {سورة الحشر: 8 و9}.
- وكان الرابط بين المهاجرين والأنصار، رابط الولاء: حُبّاً ومناصرة: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين آوَوْا ونصروا أولئك بعضُهم أولياء بعض). {سورة الأنفال: 72}.
- والذين سبقوا إلى الهجرة والنصرة والجهاد والإنفاق قد حازوا الفضل الأعظم، فلا يساويهم مَن لحق بهم وإن كان من الفائزين: (والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه...). {سورة التوبة: 100}.
(لا يستوي منكم مَن أنفق من قبل الفتح وقاتل. أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا. وكلّاً وعد الله الحسنى. والله بما تعملون خبير). {سورة الحديد: 10}.
- والهجرة فعل إيماني، فلا بد أن تكون النيّة فيها هي الإخلاص لله تعالى وحده، ولا بد أن يكون المهاجر مترفّعاً عما نهى الله عنه:
"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله". من حديث متفق عليه.
"والمهاجر مَن هَجَرَ ما نهى الله عنه". حديث صحيح رواه النسائي.
- وما دامت المسألة مسألة نيّة وإخلاص، فإن الله تعالى وَعَدَ المهاجرين بأن يُهيّئ لهم مكان إقامة وسَعَة في العيش... وحتى الذي أدركه الموت قبل أن يُكمل الهجرة فإن أجره محفوظ، وهو مشمول بمغفرة الله ورحمته: (ومَن يهاجر في سبيل الله يجدْ في الأرض مُراغماً كثيراً وسَعة. ومَن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله. وكان الله غفوراً رحيماً). {سورة النساء: 100}.
- وظهرت ثمرات الهجرة إخاءً وحبّاً وإيثاراً... وكان من ثمراتها أن اختلطت سيوف المهاجرين والأنصار، ودماؤهم كذلك، في أول معركة عظيمة مع المشركين، في غزوة بدر، فكان عدد الشهداء ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
دفعوا ضريبتهم للدين من دمهم والناسُ تَحسبُ نصرَ الدين مجّانا
اللهم ألحقنا بأحبابك من المهاجرين والأنصار، واجعلنا من عبادك الصادقين المهديّين المنصورين.
وسوم: العدد 991