حول الهجرة النبوية
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ ا لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ 38 إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قوما غيرَكم وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 39 إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ َسكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌحَكِيمٌ40 { التوبة .
هذه الآياتِ الكريمةِ من سورة التوبة تذكرُنا بأيامِ هجرةِ رسولِ الله r ،وفيها دعوةٌ للمسلمين للجهادِ في سبيل الله تعالى ، وفيها بيانٌ لنصرِ الله لرسولِه r ، وكيف أ نجاهُ من ظلمِ الكافرين ومكرهم، وحين قال أيو بكرٍ الصِّديقُ t لو نظر الكفارُ إلى أسفل لرأونا، وقد خافَ على رسولِ اللهِ r . فقال له النبيُّ r : ( لاتحزن يا أبابكر . ماظنُّك باثنين . اللهُ ثالثُهما ) . وفي هذا الموقفِ المهيبِ أنزلَ اللهُ سكينتَه ونصرَه وتأييدَه وجنودَه على نبيِّه r فكانت كلمةُ اللهِ هي العليا ، وكلمةُ الذين كفروا هي السُّفلى ، واللهُ غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثرَ الناسِ لايعلمون . ولنا أن نقلِّبَ بعضَ صفحاتِ ماقبلَ الهجرة ، لنرى مالاقاه النبيُّ r وأصحابُه الكرامُ من أذى قربشٍ وطغيانها ، ثمَّ نرى بعضَ صفحاتِ ما بعدَ الهجرة المباركة من فتح ونصرٍ ، وبناءٍ للدولةِ الإسلامية في المدينةِ المنورة . ففي العامِ الذي سبقَ الهجرة مات أبو طالب وهو الذي ساند رسولَ اللهِ وحماه من طغيانِ سادات قريش ، ثمَّ ماتتْ زوجتُه الطاهرةُ خديجةُ رضي الله عنها .وقد كانت تخففُ عنه صلى الله عليه وسلم الكثيرَ من المعاناة والأحزان التي تكتنفُ حياةَ النبيِّ r . وبموتِ أبي طالب وخديجة اشتدَّ البلاءُ على رسولِ الله r حتى سُمِّيَ ذلك العامُ بعامِ الحزن . وخرجَ r من مكةَ شطْرَ الطائفِ علَّه يجدُ مَنْ يؤمنُ بدعوته ، ولكن أهلَ الطائفِ ردُّوه ، ولم يؤمنوا بدعوته ، بل أغروا به صِبيانَهم وسفهاءَهم فرموه بالحجارةِ حتى سالَ الدمُ من قَدَمَيْهِ الطاهرتين ، فالتجأ إلى بستانٍ في الطائف ، يشكو أمرَه إلى الله وهو يقول : ( اللهم إليك أشكو ضعفَ قوتي ، وقلةَ حيلتي ، وهواني على الناس يا أرحمَ الراحمين ، أنت ربُّ المستضعفين وأنتَ ربي ، إلى مَنْ تَكِلُني ؟ إلأى بعيدٍ يتجهمُني ؟ أو إلى عدوٍّ ملَّكتَه أمري ؟ إنْ لم يكنْ بك غضبٌ عليَّ فلا أُبالي ، ولكن عافيتك هي أوسعُ لي أعوذُ بنورِ وجهِكَ الذي أشرقتْ به الظلماتُ ، وَصَلَحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرة من أن تُنزلَ بي غضبَكَ ، أو تحلَّ بي سخطَكَ ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوةَ إلا بك ) ويشاء اللهُ أن يكون فلاح ذلك البستان رجلا اسمُه عدَّاس ، فقدَّم شيئا من العنب لرسولِ اللهِ r فبدأ بالأكلِ قائلا : باسمِ الله . فانتبه عدَّاسُ وكان من أهل الكتاب ، وبعد حِوارٍ لم يَطُلْ أسلم عدَّاسٌ t فكان من الناجين ، وفي ذلك العام عام الحزن كانت معجزةُ الإسراء والمعراج لنبيِّنا مُحَمَّـــدٍّ r بروحِه وجسده فقد أسرى الله به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فلسطين ، وفُرضت عليه وعلى أُمتِه الصَّلواتُ الخمسُ في السَّماء ، ورأى من آيات ربِّه الكبرى ، وفي الصَّباحِ أخبرَ النبيُّ الناسَ بما رأى ، وجاءهم بالبرهان ، فازدادَ إيمانُ المؤمنين ، وازداد كفرُ الأشقياء المكذبين ، وفي موسم الحج من السنة الثانية للبعثة آمنَ بدعوتِه اثنا عشرَ رجلا من أهل يثرب ( من الأنصار ) وأرسل معهم مصعب بن عمير t لِيُقْرِئَ المسلمين القرآن الكريم ، وفي العام التالي ، وهو العام الذي سبقَ الهجرةَ النبويَّة وفي موسم الحج أيضا آمن به r سبعون رجلا وامرأتان وكلُّهم من الأنصار ، وبايعوه على النُّصرةِ والتأييدِ ، وعلى أن يمنعوه ممَّا يمنعون منه نساءَهم وأبناءَهم ، فاختار r منهم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم . وهكذا كان عامُ الحزنِ مليئا بالأحداثِ والإرهاصات ، فإن الرجلَ الذي خرجَ من مكةَ طريدا وحيدا ، هيَّأ اللهُ له أسبابَ سعادة أهلِ الأرضِ ، بهذا الدِّينِ الحنيفِ ، فأخرجَهم من عبادةِ الأهواء إلى عبادةِ ربِّ الأرض والسماء ، وجعلَ للعربِ دولةً وحضارةً وسيادة ، وصاغَ بالإيمان رجالا لايمكنُ للأيام أنْ تأتيَ بمثلِهم حتى قيام الَّساعةِ .كأبي بكر الصِّديق t الذي أنزل اللهُ فيه قولَه : ( وسيُجَنَّبُها الأتقى ، الذي يُؤتي مالَه يتزكَّى ) وكعمر بنِ الخطاب t الذي قال فيه رسولُ الله r : ( رأيتُ قصرا أبيضَ في الجنةِ ، قلتُ : لمَنْ هذا القصر ؟ قيل : لعمر بن الخطاب ) . وكعثمان بن عفان t الذي دعا له النبيُّ r حيثُ قال : ( اللهم اغفرْ لعثمانَ ماتقدم من ذنبِه وما تأخَّرَ ) وكعلي بن أبي طالب t الذي قال عنه المصطفى r : ( علي رجلٌ يحبُّ اللهَ ورسولَه ، ويحبُّه اللهُ ورسولُه ) ، وكسعد بن معاذ t الذي اهتزَّ لموتِه عرشُ الرحمن ، وكعبدِالله بن عَمْروِ الأنصاري t الذي كلمه اللهُ كِفاحا بلا ترجمان ( أي مشاهدة عيانا في الجنة بعد استشهادِه ) وكحنظلة t الذي غسَّلتْهُ ملائكةُ الرحمنِ بعدَ استشهادِه بِصِحافٍ من ذهب ، بماءِ المُزنِ ... وغيرُهم وغيرُهم من الأصحاب والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين ، ولِيَبقى في الصُّحفِ السودِ فرعونُ الذي قال اللهُ فيه وفي قومه ( النَّارُ يُعرضون عليها غُدُوًّا وعَشيا ) ، وقارون الذي قال اللهُ فيه ( فخسفنا به وبدارِه الأرض ) والوليد بن المغيرة أحد طغاة قريش الذي قال فيه ربُّ العزة : ( سأُرهقُه صَعودا ) وأُميَّةُ بنُ خلف طاغية قريش الآخر الذي أنزل الله فيه : ( ويلٌ لكل همزةٍ لُمَزة ) والعاص بن وائل الذي أنزل الله بحقه قرآنا فقال جلَّ جلالُه : ( كلا سنكتبُ مايقولُ ، ونُمدُّ له من العذابِ مدَّا ) .وغيرُهم وغيرُهم من أعوانهم وأتباعِهم ومَن سار على الضلالةِ والإفسادِ إلى يومِ القيامة .
وفي نهاية عام الحزن اجتمع طغاةُ قريش ومجرموها ، وقرَّروا قتلَ رسولِ الله r على يدِ فرسانٍ يجتمعون من كلِّ القبائل ، حتى يتفرقَ دمُه بينها ، وعندئذ لايقدرُ بنو منافٍ وهم عشيرةُ الرسولِ r على حربِها جميعا . ويمكرون ويمكرُ اللهُ واللهُ خيرُ الماكرين . وتبقى صورُ البطولة و الفداء لدى المؤمنين من جُندِ مُحَمَّـــدٍ r عنوانا على صِدقِ الإيمانِ وقوةِ اليقين بالله ، فقد وقفَ عمرُ بنُ الخطاب t على رؤوس القوم وقال بقوة وشجاعة : إني مهاجر ، فَمَنْ أراد أن تثكلَه أُمُّه فليَلحقْ بي غدا ببطنِ هذا الوادي ، ولم يلحقْهُ أحدٌ .
وعندما أذنَ اللهُ لرسولِه بالهجرة ، لم ينم تلك الليلة على فراشِه في بيته ، وغادر إلى دارِ أبي بكر الصِّديق t ، وكان الصِّديقُ قد هيَّأ راحلتين لهذه الهجرة العظيمة ، واستأجر أبو بكر الصديق t عبدَالله بن أُريقط وكان مشركا ليدلَّهُما على الطريق . وخرجا يوم الخميس أول شهر ربيعٍ الأول لسنة ثلاثٍ وخمسين من مولدِه r . ولم يعلم بهجرته إلا علي t وآلُ أبي بكر الصديق t ، وهيأت لهما الطعامَ ابنتا أبي بكر عائشة وأسماء رضي الله عنهم أجمعين ، وقد شقَّتْ أسماءُ نطاقَها ، وربطت وعاء الطعام ، فَسُمِّيتْ ذاتُ النطاقين ، وخرج ركبُ النبوة شطرَ المدينة المنورة . في حين خابتْ قريشُ عندما أفلسَ فرسانُها من قتلِ النبيِّ r في بيتِه ،فاتجهوا في كلِّ حَدَب وصَوبٍ يبحثون ، وساروا على طريقِ مكة المعروف لديهم ، ولكنهم لم يجدوه ، وعرَّجوا إلى طريقِ اليمن حتى وصلوا إلى غار ثور ، وقالوا لبعضِهم لعله وصاحبَه هنا في هذا الغار ، ويجيبُ آخرون : ألا ترون نسيجَ العنكبوت قد غطَّى فمَ الغارِ ، وكيف تعشعشُ الأطيارُ فيه ، ورسولُ الله r وصاحبُه t يسمعان مايدورُ بينَ الأشقياء من حديث .وانقطعَ طلبُ رسولِ الله r ، وخرجَ وصاحبُه مع دليلِهما وقد أخذا طريقَ الساحل . والمشركون دارتْ بهم الدنيا ، و وضعوا جائزةً ثمينةٍ لمَن يأتي بمحمَّدٍ r حيًأ أو ميتا . وانطلقَ طلاَّبُ الدنيا يطمعون بجائزة الكفرِ ، وكان منهم / سراقةُ بنُ مالك الذي أدرك النبيَّ r ولمَّا اقترب منه ، ساخت قوائمُ فرسِه في الرمل ، ولم تقدر الفرس على السير ، وحاول سراقة ... وحاول ثلاث مرات للسير بها صَوْبِ رسولِ الله r ولكنَّ الفرسَ تأبى ، وعلمَ الرجلُ أنْ لاحيلةَ له في الوصول ، وتراجع ، وطلبَ أن يعدَه النبيُّ بشيءٍ إن أظهره اللهُ على قومه ،فوعده بِسِوارَيْ كسرى ملك الفرس يلبسُهما ، وعاد سراقة متحيِّرا متعجبا مذهولا ، ولزم الصَّمتَ وتظاهر بأنه لم يعثر على أحد . والآن نريد أن نستبقَ الأيامَ ، وقبلَ أن نصلَ إلى خيمةِ أمٍّ معبدٍ الخزاعيةِ صاحبةِ الشاةِ العجفاء ، حتى نقفَ في مسجدِ رسولِ الله r وفي زمن خلافةِ الفاروق عمر بنِ الخطابِ t ، وقد فتحَ المسلمون بلادَ العراق وفارس ، وجاؤوا بالغنائم ، و وضعوها في صَحَنِ المسجد النبويِّ الشريف ، فكبَّرَ المسلمون على هذا النصرِ المؤزَّر والفتحِ المبين ، غيرَ أنَّ عمرَ t بكى ، فقيل أتبكي في مثل هذا اليوم يا أميرَ المؤمنين ؟ فقال : أين سراقةُ بن مالك ، فأسرعوا ونادوا سراقةَ وكان شيخا طاعنا في السن ، فناداه عمرُ وقال له : بِمَ وعدَك رسولُ اللهِ r حين أدركتَه أيامَ الهجرةِ ، فأخرجَ سراقةُ كتابا من جيبِه ، بخطِّ أبي بكرٍ الصديق t يعدُه فيه رسولُ الله بأن يلبسَ سِوارَيْ كسرى ملك الفرس . فبكى عمرُ وبكى الحاضرون ، وحملَ عمرُ t سِوارَيْ كسرى ملكِ الفرسِ ، وألبَسَهُما سُراقةَ وقال : الحمدُ لله الذي ألبسَ سِواريْ كسرى ملكِ الفرس أعرابيًا من البادية . إنها معجزةٌ أخرى لرسولِ الله r ، وإنها بِشارةٌ لهذه الأمة بالفتحِ والنصر مهما تكالب عليها الأعداءُ ، ومهما فعل الغزاةُ ، فالأُمة منصورة بإذنِ الله إذا عادت إلى دين اللهِ وإلى وعدِ رسوله r . نعود لنُتابعَ ركبَ المهاجرِ العظيم ، بعد أن ترك الإناء مملوءا بالحليب في خيمة أم معبد من شاتها العجفاء التي ماكان في ضرعِها نقطةُ حليبٍ ، وليكون معجزة أخرى يراها أبو معبد في خيمةِ زوجتِه إذا عاد . وفي اليوم الثاني عشر من شهرِ ربيعٍ الأول يصل النبيُّ r إلى المدينة المنورة ، فاستقبلوه بدموع الفرح ، وراحَ ولدانُهم ينشدون بالدفوف الأناشيد التي تدل على حبِّهم لضيفِهم العظيم ، ونبيِّهم الكريم ، وتباشر الناسُ وفتحت القبائلُ أبوابَ كرمِها احتفاءً بمَقدَمِ النبيِّ r . فنزل في قِباء وأسس أولَ مسجد للإسلام فيها . وأقام في قباء أربعةَ أيام . ثم سار صباحا وأدركتْه صلاةُ الجُمُعةِ في منازل بني سالم بن عوف فبنى مسجدا هناك ، وأقام أولَ جُمُعة في الإسلام في ذلك المسجد ، وألقى فيه أوَّلَ خُطبةِ جُمُعةٍ في الإسلام أيضا . وحين وصل المدينة المنورة بنى في مَبْرَكِ ناقتِه مسجدَه الشريف ، وكانت الأرضُ لغلاميْن يتيمين من الأنصار في المدينة ،فاشتراه منهما بعشرة دنانير من ذهب ، أدَّاها لهما من مال أبي بكر الصديق t ، وحاول الغلامان أن يجعلا الأرضَ هبةً له r ولكنه أبى إلا أن يأخذا المال . وتعاون المسلمون في بناء المسجد ومعهم نبيُّهم يحملُ الحجارة والطين وكانت لهم قصص عظيمة أيام بناء المسجد المبارك ، وآخى r بين المهاجرين والأنصار وكانت لهم قصص أثيرة في الإخاء والإيثار ، كانت تقوى الله لهم شعارا في معاملاتهم وتصرفاتهم ، يقول تعالى : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لايحتسب ، ومَن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن اللهَ بالغُ أمرِه قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قدرا) 2/الطلاق . وحَرِيٌّ بالأمة اليومَ أن تعودَ إلى سيرةِ رسول الله وأصحابه قبل الهجرة وبعد الهجرة وأثناء الهجرة ففي سيرتهم مجدٌ للأمة ، وفخرٌ لأبنائها ، ونداءٌ لها كي تستعيدَ ما كان لها من سُؤْدُدٍ وسيادةٍ وانتصارات . وكان في المدينة يهودٌ عاهدوا أن يبقوا على دينهم ، ولكنهم نقضوا العهود وكان منهم ماكان من غدر وخيانة ومكر ( كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ) 64/المائدة . وقامت دولةُ الإسلام الأولى في المدينة المنورة في مجتمع أساسُه البِرُّ والتقوى ، والأُخوَّة والتكافُلُ ، يقودُه نبيُّ الهُدى r على نهجِ ربِّهم القائل في كتابه الكريم : ( وأنَّ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبلَ فتفرقَ بكم عن سبيله )153/الأنعام .
في صفحاتِ هجرةِ المصطفى r دروسٌ وعبر ، ومواعظ يَجْدُرُ بالأمةِ الأخذُ بها ، والوقوفُ على مافيها من توجيه ، في هذه الأيام التي اشتدتْ فيها عواصفُ الفتنِ ، إنها إشراقاتٌ من سيرةِ رسولِنا الكريم r تُنيرُ الدربَ لهذه الأمةِ ، وتشحذُ الهممَ ، ورسولُ اللهِ r هو المثل الأعلى لكلِّ مَنْ يريدُ السُّمُوَّ بنفسِه ، أو النَّجاةَ لأمتِه ، فهو الذي أنشأ هذه الأمة ، وشكَّلَ الدولةَ بعدَ هجرتِه ، وهو الذي ضربَ الأمثلةَ الرائعةَ في بيتِه ، وفي مجتمعِه ، وفي العالَمِ كله ، فكان بِحَقٍّ كما قال اللهُ تعالى فيه : ( لقد كان لكم في رسولِ اللهِ أسوةٌ حسنة لِمَنْ كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر ) 21/ الأحزاب . فالنبيُّ r لاقى الأذى من الكفار وصبرَ ، وصبرَ أصحابُه رضوانُ الله عليهم أجمعين ، وعاشَ في مكة يدعوهم ويعلمُهم دينَهم سِرًّا في دارِ الأرقم ،ثم أنذر عشيرتَه الأقربين جهرا ، فوقف على الصَّفا ونادى بطونَ قريش ، ودعاهم إلى الإسلام ، وتركِ عبادةِ الأوثان ، ورغَّبَهم بالجنَّةِ ، وحذَّرَهم من النار ، فهدى اللهُ مَنْ شاءَ أن يهتديَ منهم ، و وقف رؤوسُ الكفر معاندين مستهزئين ، ومنهم أبو لهب الذي أنزل اللهُ فيه : ( تبت يدا أبالهب وتب ... ) فأرادت قريشُ أن تنالَ منه r وأغروه بالمالِ والنساءِ والمُلكِ ولكنه أبى لأنه مرسلٌ من الله وقال لعمِّه أبي طالب : ( واللهِ لو وضعوا الشمسَ في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمرَ حتى يظهرَه اللهُ أو أهلك دونه ما تركتُه ) . وعندئذٍ كانت الهجرة هي المخرجُ من ظلماتِ الأذى والمحنِ والتهديد ، وكانت الهجرةُ فتحا مبينا للمسلمين ، ونصرا مؤزَّرًا اشتدت به سواعدُهم ، وقويتْ به شوكتُهم ، وتخلصوا من تلك المقاطعة التي ضربتْها عليهم قريشٌ في الشِّعْبِ ثلاثَ سنوات . وتلك مكافأةٌ من ربهم في حياتِهم الدنيا ، وما عند الله لهم من الخير والثواب والنعيم الذي سوف سيجدونه يوم لاينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليم . كانت الهجرةُ عنوانَ إيمانٍ صادقٍ بالله ورسولِه r ، و وثيقةَ فتح ونصر تتجدَّدُ في حياةِ الأمةِ على توالي العصور
إنَّ أمَّةً تملك هذه السِّير ، وتؤمن هذا الإيمان بالله الذي بيده الملكُ والأمرُ ، وبين يديها هذا القرآن العظيم ، وهذه السُّنَّةُ المباركة الطاهرة ، وفيها رجالٌ صدقوا الله العهد ، لايمكن لها أن تتلاشى أمام الغزاة والطغاة والماكرين ، ولايمكن لنور مُحَمَّــدٍ r أن يخبو أو تطويه ظلمات هذا العصر ، إنَّ وجود الأمة المحمدية باقٍ مابقي الله جلَّ جلاله ، فإن كان للغزاة والطغاة والماكرين من قدرة على ربِّ السماوات والأرض فليأتوا بها إن كانوا صادقين ، وإلا فعليهم اللعنةُ ، وعاقبتُهم الهزيمة مهما عربدت لياليهم بهذا الأذى وهذا الجنون الذي أفقدهم صوابَهم رغم مافي الأمة من ضعف وهوان !! حتى أنهم نسوا زيفَهم في تسمية حضارتهم بأنها حضارة الإنسان وحقوق الإنسان ، وسعادة الإنسان . ولكن الذي أُثر مازال وسيبقى صحيحا فيهم ، وفي أمثالهم : ( إذا لم تستح فاصتع ماشئت ) .
وسوم: العدد 993