( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر)
( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النارهم فيها خالدون ))
من المعلوم أن دين الإسلام يلتزم بشعاره (( لا إكراه في الدين )) ،فلا يكره أحدا على ترك دينه، والدخول فيه لكنه لا يقبل ردة منه بعد اعتناقه لما في ذلك من إساءة إليه بعد الاستفادة مما يخوله لمعتنقيه من حقوق لم تكن لديهم قبل اعتناقه ، ولما في ذلك من إفساد لمعتنقيه بتحريضهم على الردة .
والردة مصطلح شرعي يطلق على الخارج من حظيرة الإسلام بعد اعتناقه ، وهو مقتبس من كتاب الله عز وجل في قوله تعالى : (( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )) . و الردة أو الارتداد في اللسان العربي رجوع إلى الخلف أو تراجع وتقهقر ، وهو في الدين خروج منه بعد اعتناقه ، والخروج من دين الإسلام بعد اعتناقه يعتبر كفرا كما جاء في هذه الآية الكريمة شريطة أن يظل المرتد على ردته أو على كفره، ويموت على ذلك .
وفي هذه الآية الكريمة وعيد شديد من الله عز وجل للمرتد الذي يحبط عمله الذي عمله وهو معتنق للإسلام في دنياه وآخرته مع خلوده في نار جهنم . والحبط ـ بتسكين الباء وفتحها ـ في اللسان العربي فساد وبطلان الشيء ، وذهابه سدى ، ويطلق أيضا على انتفاخ البطن من كثرة الأكل أو من أكل ما يضر ، وقد جاء في الحديث : " إني أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا " فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله ؟فقال عليه الصلاة والسلام " إنه لا يأتي الخير بالشر وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلمّ" وفي هذا إشارة إلى إكثار الماشية مما ينبت الربيع، فتنتفخ بطونها وتهلك . وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم من يكثر من الإقبال على الدنيا بتلك الماشية التي تقع فيما ينبت الربيع فيصيبها الحبط ،وتهلك .
والمقصود بالعمل المحبط بالنسبة للمرتد هو العمل الصالح الذي كان له قبل ردته حيث يذهب سدى ويضيع .وقد جاء في كتب التفسير أن المرتد يضيّع بردته كل ما كان يستفيد منه من حقوق وامتيازات يخولها له الاسلام وهو في حظيرته ، فضلا عما كان له من أجر على ما قدم من صالح الأعمال عاجلا وآجلا ، وهو ما ينتهي به إلى الخلد في نار جهنم وبئس المصير .
ومن لطف الله تعالى ورحمته بالمرتد أنه مكنه من فرصة التوبة من ردته قبل أن يغرغر ، حيث يستعيد ما كان له من حقوق ضيعها بالردة ، وقد وقع خلاف بين أهل العلم عن مصير صالح أعماله، فقال بعضهم لا يضيع منه شيء منها ، وقال آخرون يضيع منه ،والله تعالى أعلم وهو الغفور الرحيم . ومعلوم أن المرتد يستتاب، وقد اختلف في مدة توبته، فقيل ثلاثة أيام، وقيل شهر كامل قبل أن يطبق عليه حد الردة، وهو حد يصون بيضة الإسلام ، ويحمي حوزته .
وإذا ما كان لنزول هذه الآية الكريمة سبب معلوم حيث كانت بعض القبائل تعتنق الإسلام في بداية الدعوة ثم ترتد بتحريض من المنافقين أوالمشركين ، فإن القرآن الكريم وهو الرسالة العالمية الخاتمة جاء بالتشريع الذي يغطي عمر البشرية إلى قيام الساعة ، لهذا يعتبر التحذير الإلهي من الردة ساري المفعول إلى يوم الدين ، و لأنه لا يخلو عصر أو مصر من مرتدين لا بد من ثنيهم عن ردتهم المسيئة إلى الإسلام والمسلمين .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو خروج البعض ممن لهم خلفية لادينية أو علمانية خروجا إعلاميا وقحا يندد بإدانة القضاء عندنا مرتدة ساخرة من كتاب الله عز وجل، ويعتبر ذلك عندهم مساسا بحرية الاعتقاد ، وبحرية التعبير ، والحقيقة أن الأمر يتعلق بمخالفة الشرع ،لأن حرية الاعتقاد يضمنها الإسلام لمن لهم أديانهم أما من يدخل حظيرة الإسلام ، فلا يمكنه أن يستفيد أو يتذرع بحرية الاعتقاد عن طريق مروقه منه بالردة بعد الدخول فيه ، و لهذا فدعوى هؤلاء العلمانيين باطلة من أساسها ، وما بني على باطل، فهو باطل .
ولقد كثرت في زماننا هذا في مجتمعاتنا المسلمة دعاوى تشجع على الردة تحت شعار يساء استعماله وهو (( لا إكراه في الدين )) الذي لا يشمل المرتدين من الإسلام إلى غيره أو إلى الكفر البواح بل هو خاص بمن لهم ديانات أخرى لا يمكن أن يجبروا على تركها ،واعتناق الإسلام . ومعلوم أن اعتناق الإسلام يكون عن اقتناع لا عن إكراه ،لهذا لا يعذر من يرتد عنه بعد اعتناقه عن اقتناع لأنه إن فعل استهدفه ، واستهدف أتباعه ، ويكون إما داعيا إلى كفر وإلحاد أو داعيا إلى غيره من الديانات أو قاصدا تشكيك معتنقيه فيه خصوصا من طرف أولئك الذي يدعون الانتماء إلى حظيرته وهم يخفون ما هم عليه من معتقدات أخرى مخالفة له أو مناقضة له ، وهؤلاء يشكلون خطرا عليه لأنهم في حكم المرتدين ، وهم بذلك في حكم الغادرين ، والخونة .
وتكاد وسائل التواصل اليوم لا تخلو من نماذج المرتدين بشكل أو بآخر، وهم يشهرون بكل وقاحة ردتهم لحاجة في نفوسهم وإلا لو أنهم أخفوا ردتهم لأمكنهم ذلك، لأنه لا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور إلا الله عز وجل، ولكن شأنهم كشأن الذين يعلنون إفطارهم في رمضان دون أعذار، وقصدهم من هذا الإعلان واضح لا غبار عليه ، ومثلهم في ذلك مثل الدعاة إلى إعلان الفواحش مما صار يسمى علاقة جنسية رضائية أو مثلية ، فهؤلاء أيضا لو أنهم استتروا لما اقتحم عليهم أحد سترهم ،ولكنهم يقصدون بإعلانهم عن فواحشهم إشاعتها في المجتمعات المسلمة لإفسادها.
اللهم إنا نبرأ إليك من كل مرتد أثيم ، ومن كل من يدعو إلى ردة أو يحرض عليها أو يسوقها بين المسلمين ، ونسألك اللهم الثبات على الدين بحسن يقين حتى نلقاك كما ترضى ويرضيك . اللهم احم حوزة الإسلام من كيد الكائدين ، وصن اللهم المسلمين من مكر الماكرين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 993