( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
من المعلوم أن الكتاب الأخير الذي ختم به الله عز وجل كتبه المنزلة من عنده عبر تاريخ البشرية الطويل ، وجعله الرسالة العالمية الخاتمة للناس أجمعين إلى يوم الدين قد ضمنّه أوصافا أضفاها عليه ليعرف الخلق قيمته وقداسته ، ويكون تعاملهم معه على أساس قدره العظيم .
ومن أوصاف كتاب الله عز وجل ما جاء في قوله تعالى : (( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) ، أما الوصف الأول فهو العزة التي تعني المنعة ، ولا يمنع إلا النفيس صيانة لنفاسته ، وهي صفة يصف بها الله تعالى ذلته المقدسة ،وقد أضفاها على كتابه الكريم تأكيدا لمصدره لأن ما صدر عن عزيز يكون بالضرورة عزيزا . و لقد اقتضت عزة كتاب الله عز جل أن تنفي عنه ما من شأنه أن ينال منه لذلك ذكر سبحانه وتعالى نفي الباطل عنه نفيا قاطعا بقوله : (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه )) ، والباطل نقيض الحق ،لهذا كان الحق صفة من صفات القرآن الكريم ذلك أن نفي صفة الباطل عنه هو بالضرورة إثبات لصفة الحق له .و صفة الحق في القرآن الكريم اقتضتها صفة عزته لأن العزيز والنفيس يستحيل أن يلابسه الباطل الذي هو محض كذب لا قيمة له .
وقوله تعالى : (( من بين يديه ولا من خلفه )) فيه جزم بأن كتابه الكريم ممتنع على الباطل ولا يشتمل عليه ، ولا يمكن أن يوجد فيه، ولا أن يداخله لا من أمامه ولا من خلفه . و الأمام والخلف جهتان يؤتى منهما كل من أو ما يستهدف بسوء ، وهو ما يعني تنزيه كتاب الله عز وجل عن الباطل في ظاهره وفي تأويله ، وقد ذكر العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في تفسيره أن قول الله تعالى هذا تمثيل بحال مهاجم يروم إلحاق الضرر بغيره فيأتيه من بين يديه ، فإن صده خاتله فأتاه من خلفه ، وأشار إلى أن هذا من فعل الشيطان الرجيم مع الإنسان .
ومن الصفات التي خص بها الله عز وجل كتابه الكريم أيضا أنه تنزيل من عنده ، وهو ما ينفي قطعا أنه من عند غيره أو أنه افتراء عليه ، وهذه شهادة منه جل وعلا على مصداقيته ،وفي ذلك قطع كل سبيل على كل من يشكك في كونه تنزيلا من عنده . وكونه تنزيلا فيه تأكيد لتنزيهه عن الباطل أيضا لأن مصدره الحق الذي يزهق معه الباطل .
ومن صفات هذا الكتاب الكريم أيضا أن منزله حكيم وحميد ، والحكمة هي المعرفة الحقة والسديدة أو معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم كما قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى ، وما كان منزلا من حكيم كان حكيما بالضرورة ، وفي هذا الوصف أيضا ما ينفي عن كتاب الله عز وجل ملابسة أو مداخلة الباطل له ، وهذه الحكمة التي أودعها فيه منزله تقتضي حمده سبحانه وتعالى .
وهذه الصفات التي أضفاها الله تعالى على كتابه الكريم، وغيرها من الصفات الواردة فيه فيها تبكيت لكل من يحاول أن يكذب به أو يشكك فيه أو ينسب له ما لا يليق به أو يخوض فيه بالتأويل الفاسد والضال المضل .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو إشاعة بعض السفهاء من المحسوبين على الإسلام بعض الأباطيل على كتاب الله عز وجل من قبيل أنه يدعو إلى الكراهية ، والعنف ، والتمييز بين الخلق باعتبار معتقداتهم ، و التمييز بين ذكورهم وإناثهم من حيث حقوق كل منهم ... إلى غير ذلك من الافتراءات التي أساسها خلفيات لا دينية مع أن الله تعالى نزه كتابه الكريم عن كل هذه الافتراءات ، وإن ما جاء فيه من أوصاف أو تصنيف للخلق فهو حق لا يمكن الطعن فيه، ذلك أن الكفار كفار ، والمشركون مشركون ، والمنافقون منافقون، والمؤمنون مؤمنون ، ولا يصح تصنيف للبشر مهما كان عوضا عن هذا التصنيف لأن الخالق سبحانه وتعالى تعالى هو الأعلم بمن خلق ، وهو منزه عن ظلمهم بالخطإ في تصنيفهم ، وهو يصف كل صنف منهم بما هم عليه من اعتقاد ومن سلوك .
وهو الذي يحدد سبحانه وتعالى لعباده للمؤمنين كيفية التعامل مع غيرهم فيوجب عليهم محبتهم أو كراهيتهم ، لهذا لا يمكن إدانة أو تجريم ما أوجب عليهم وهم في ذلك يحبون من يحبه ، ويكرهون من يكرهه .
وما خص به سبحانه وتعالى الخلق ذكورا وإناثا من حقوق وواجبات كله عدل لا ظلم ولا يمكن أن يلابسه ، ولا يقبل من أحد مهما كان أن يصفه باطلا بالعيب ، وليس من حق أحد أن ينزل تشريعا عوضا عن تشريعه لأن ما دون تشريعه لا يسلم من باطل وظلم وراءه أهواء ، ولا اجتهاد مع نصوص كتابه الكريم القطعية.
وليس من حق أحد أن يذهب في تأويل كتابه الكريم مذاهب وراءها أهواء سواء ادعى أصحابها الانتماء إلى حظيرة الإسلام ممن يبتدعون ما لم يشرعه الله عز وجل فيه أو يتأولونه التأويل الباطل وفق أهوائهم أو كانوا ممن تشهد أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم على عدائهم الصريح أو الضمني لدين الله عز وجل ، وهؤلاء وأولئك جميعا يتعمدون الافتراء على كتابه الكريم بطرق ماكرة ظاهرها أنهم يتهمون المؤمنين بتهم كالكراهية والعنف والإرهاب والتمييز بين الخلق ....وباطنها أنهم يقصدونه تحديدا ، وهكذا يكون اتهامهم الذي يصرحون به مجرد مطية أو جسر لما يقصدونه من إساءة إلى ما لا يأتيه باطل من بين يديه ، ولا من خلفه بشهادة عليم خبير، وعزيز حميد سبحانه وتعالى .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نقول في كتاب الكريم بأهوائنا و بما لا علم لنا به ، وما لا ينبغي في حقه ، ونبرأ إليك من كل من يتأولونه غير تأويلك ، وتعوذ بك أن نجاريهم في أهوائهم للافتراء على كتابك الكريم سواء منهم من يدعون أنهم على دينك ممن ابتدعوا فيه ما لا يرضيك أومن الذين يدعون أنهم على دينك نفاقا وخداعا للمؤمنين أو الذين يجاهرون بكفرهم وإلحادهم .
اللهم إنا نحب بحبك من يحبك ،ويجب رسولك صلى الله عليه وسلم ، ويحب دينك، ويحب عبادك المؤمنين ، ونعادي بعداوتك من يعاديك ويعادي رسولك ، ويعادي ودينك والمؤمنين .
اللهم ارزقنا حسن تدبر كتابك الكريم ، وأعنا على الالتزام بما جاء فيه قولا وعملا ، واجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 995