( وإنك لعلى خلق عظيم )
يمتلك المسلمون أغلى قيم الإرشاد الأخلاقي ، وأسمى منهج للتوجيه المميز للإنسان ، ولديهم من التوجيهات الربانية أعلاها أثرا في النفوس : وأبلغها تأثيرا في السلوك ، فالقرآن الكريم حافل بالقيم الأخلاقية التي تتجلى واضحة لقارئ كتاب الله ، والسُّنَّة النبوية المطهرة من الأحاديث الشريفة ، والأعمال الكريمة ، وما أقره النبيُّ صلى الله عليه وسلم ووافق عليه مما فعله الأصحاب الكرام رضي الله عنهم ... حيث يستغني المسلم بها عن سِواها ، ويكفي الأخلاق في الإسلام عُلُوًّا في مكانتها أنها وحي رباني ، وإرشاد نبوي ... إرشاد لاينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحَى كما هو معلوم لدى الأمة . ولقد شهد المولى تبارك وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بهذا فهو القائل سبحانه وتعالى مخاطبا نبيَّه عليه الصلاة والسلام : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) 4 / القلم .
والإنسان وهو يعيش بين الناس على اختلاف أجناسهم وطباعهم وألسنتهم بحاجة إلى الأخلاق الفاضلة ، والصفات الحميدة ، فالأخلاق تبعث الأنس في النفوس ، والطمأنينة في القلوب ، ويشعر الإنسان بمعاني الإنسانية العالية التي تزينها مكارم الأخلاق ، وتملأ بيئتها الفاضلة قيم الإخاء والمودة والتسامح والإيثار والكرم والمواساة والتكافل ... وما إلى مافي معجم الأخلاق من سجايا فاضلات . وإذا ماتمكنت هذه الأخلاق من حياة الإنسان في أقواله وأفعاله فقد أخذ بالسيرة المحمودة ، ونأى بنفسه عن مواطن الأذى لغيره من الناس ، وقد حاز قصب السبق في هذا المضمار ، ولقد اشتهرت الأمم البائدة بالأخلاق ، وبحث المفكرون في جوانبها ، وجعلوها فلسفة لها أبعادها ، ومع كل ذلك فهي لاترتقي إلى المنهج الإسلامي الأخلاقي الذي كمل من جميع الجوانب ، بكمال الدين الحنيف ، والذي ضم نظام الحياة بكل مايسعد الإنسان على وجه الأرض مدة عمر الحياة الدنيا . قال تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) 3/ المائدة . وبكمال الدين كملت قيم الأخلاق ونالت مكانتها عند الله سبحانه ، ثم عند الناس من أولي الألباب . وقد اكتفى أبناؤُها بوسامها الكريم ، وقد صفت النوايا ، وحسُنت السيرة ، وطابت المعاملة ، وتطهر القلب ، وتسامت النفس ، وتلكم كانت أيام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين بإذن الله تبارك وتعالى . وصدق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال : ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) ، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الأخلاق ، وكيف لا وهو رسول الله وخاتم النبيين وهو القائل صلى الله عليه وسلم : (أدبني ربي فأحسن تأديبي ) . ويتسابق المصلحون في إبراز القيمة الأخلاقية في حياة الفرد وفي حياة الأمة ، ولقد أجاد القائل :
( وإنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ ... فإن همُو ذهبتْ أخلاقُهمْ ذهبُوا )
وكيف للأمة أن تنال مكانتها العالمية وقد فسدت أخلاق بنيها ، وخربت مغانيهم ، وغابت أطياف الأنس والصدق في حياتهم ، ولقد أحسن القائل :
( وليسَ بعامرٍ بنيانُ قومٍ... إذا أخلاقُهم كانتْ خرابا )
ولا تستقيم حياة الفرد إن لم تستقم أخلاقه ومعاملاته مع الناس ، فالأخلاق الحميدة دواء لعلل النفس ونوازغها وأهوائها ، وكذلك أجاد وأفاد القائل :
(صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُهُ... فقوّمِ النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ )
فللأخلاق وهي الماء النمير الذي يجري من نبع عقيدتنا الإسلامية ، يصلح الأرض البوار ، ويحيي مامات من خير ، وأداء الأخلاق الحميدة لها ثوابها عند الله سبحانه . وحسبنا أن نذكر هنا: حديث أبي ذر رضي الله عنه، الذي أورده الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينجي العبد من النار؟ قال: ( الإيمان بالله). قلت: يا نبي الله، مع الإيمان عمل؟ قال: ( أن ترضخ مما خولك الله، وترضخ مما رزقك الله ) ... إلى آخر هذا الحديث العظيم . ومن إيجابيات هذا الخُلق أو هذه العبادة أنه دعوة لإغاثة المحتاج والمضطر والجائع من يتيم أو أرملة أو مطلقة أو فقير محتاج ... فالطعام ضرورة للإنسان وتقديمه من عمل الأبرار ( وأطعموا الطعام ) أولئك الذين يستحقون رضوانه وجنته وحسبهم قول الله عزَّ وجلَّ : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) – الإنسان : 8، 9. فالخير وهو وجه أخلاقي وفعله ونيته له أثره البالغ في حياة المجتمع وهو جزء من حياة المسلم. فإن استطاع فعل الخير لم يدخر وسعافي أدائه ، وإن لم يستطع نواه في قلبه، ودعا غيره إليه، ودله عليه، ليكون له مثل أجره.
فالخُلُق الحسن عبادة كلمة عظيمة ، تتعدد معانيها ، وتتنوع منطلقاتها ، وأهل الخلق الفاضل هم أقرب الناس إلى الله تعالى ، وهم أحبُّ الناس إلى الناس ، والمجتمعات بحاجة إلى تفعيل قيم الأخلاق ، وترجمتها إلى سلوك كريم ، وإلى صور مشرقة في التعامل ، ليسعد المجتمع بكل شرائحه ... فقيرِهم وغنيهم ، ضعيفِهم وقويِّهم ، عالمِهم ومتعلِمِهم ، ومن الخلق يكون الإخاء والوفاء ، ويكون التعاون والتكافل ، ويتميز الفعل فيُقال هذا خيرٌ عن الأفعال الكريمة ، ويُقالُ هذا شرٌّ عن الأفعال الذميمة . والأخلاق تنوُّع مقاصدها ، وتتسع معانيها ، ويستطيع أيُّ مسلم أن ينال الثواب بأيٍّ عمل خُلُق ينتج عملا خيريا ، فلو أن مسلما شاهد مسلما ، وسلمَّ عليه وأبدى له البشاشة ، فقد قام بخلق جميل يُؤجَرُ عليه عند الله ، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ المؤمنَ إذا لقيَ المؤمنَ فسلَّمَ عليه ، وأخذَ بيدِه فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثرُ ورقُ الشجر ) ذكره المنذري في الترغيب . فهذان لم يخسرا شيئا من جيوبهما ، ولم يكلفْهما هذا العمل مافيه إرهاق أو إضاعةُ وقت ، ومع ذلك غفرَ الله لهما وأكرمهما . ومن هنا يتوِّجُ الخُلُق الحميد أقوال المسلم وأفعاله في الليل والنهار ، في الحضر والسفر ، من عفوٍ ومودةٍ ورفقٍ وجودٍ وتواضعٍ ، ومن سائر الأخلاق التي أمرَ اللهُ بها ، وحثَّنا على الالتزام بها نبيُّنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، الذي جاء بالأخلاق الكريمة ، وأمر بالتحلَّي بكل مافيها من الآداب ومن الأعمال الفاضلة التي تعود بالنفع على المجتمع من رحمة وصدق وتفاؤُل وتواصٍ بالحق وتواصٍ بالصبر ، وصيانة للِّسان من الغيبة والنميمة وشهادة الزور واللَّعن والشَّتم ... وغيرها من خصال ذميمة لاتخفى على أحد ، ولا تؤدِّي إلا إلى الشرِّ الذي يناقض الخير .
فالأخلاق الطيبة :
كلُّها خير وبِرٌّ ( والبِرُّ حُسنُ الخُلُق ) كما ورد في الحديث . يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( أكملُ المؤمنين إيمانا أحسنُهُم أخلاقًا ، الموطئون أكنافا ، الذين يألفون ويُؤلَفون ، ولا خيرَ فيمن لايألف ولا يُؤلف ) رواه الطبراني . وترتبط الأخلاق ارتباطا وثيقا بالخير ، والأخيار من عباد الله هم أهل الأخلاق الفاضلة والسيرة الحميدة والمعاملة الحسنة يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ( ألا أُنبئُكم بخياركم ؟ ) قالوا بلى . قال : ( خيارُكم أطولُكم أعمارا ، وأحسنُكم أخلاقا ) رواه أحمد .
والعمل الخيري الذي استُؤثر بمضمونه لدى الجهات الخيرية ، هو قائم بلا ريب على مكارم الأخلاق ، فالجود والبذل والتكافل بين المسلمين وتأليف القلوب وإصلاح ذات البين والعفو والحلم والرفق والإيثار ... كلُّها من مكارم الأخلاق ، وهي تلبية لنداء الإسلام الذي حضَّ عليها ، وحذَّرَ من الشرِّ والأهواء ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دعائه: ( اللهم إني أعوذُ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء ) رواه الترمذي.
إن سعادة المجتمع تكمن في الأخذ بمكارم الأخلاق ، وتعويد النفس وتطبيعها على القول الحسن والفعل الحسن ، ومشاركة الناس في مآثرها وفضائلها ، لتسود الخيرية المباركة في الأقوال والأفعال ، وعندئذ لايبقى شرٌّ ولا أذى ، وتلكم هي سِمةُ المجتمع الإسلامي .
وسوم: العدد 997