( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم )
لقد مر بنا في أكثر من حديث من أحاديث الجمعة أن الله عز وجل قد فطر الإنسان على فطرة سوية إذا ما ظل عليها اهتدى ونجا ، وإذا انحرف عنها ضل وهلك . ولما كان الإنسان بجبلته وطبيعته خطّاء ، فإن ما يقع فيه من أخطاء إنما هي انحرافات عن فطرته السوية ، وهي تختلف من حيث خطورتها .
ومن حسن حظ الإنسان أن الله عز وجل رحمة ورأفة به مكّنه من فرص العودة إلى مساره الصحيح على الفطرة السوية بعد الزيغ عنها ، وذلك بفتح أبواب التوبة أمامه واسعة لا تصد في وجهه ما لم يستوف قدره من العمر في هذه الحياة الدنيا بالغرغرة ساعة احتضاره .
ولا يوجد إنسان لا يمر بانحرافات عن فطرته السوية ، وقد يحصل له ذلك يوميا ، ويكون شأنه مع نفسه ، وهي تستحلي هذه الانحرافات بنهم شأن من يقود فرسا جموحا يرد جموحه باستمرار بالزمام .
ومعلوم أن القرآن الكريم ،وسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هما الزمام الكابح لكل انحراف عن الفطرة السوية قد تستحليه النفس البشرية . وقد يحصل ممن يلتزمون بالثبات على الفطرة السوية انحرافات عنها بين الحين والآخر ، وهو ما سجله الوحي مما حدث ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ حي بين صحابته حيث قال الله تعالى :
(( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا يردّوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم )) .
فيم المعلوم أن سبب نزول هاتين الآيتين الكريمتين أن قبيلتي الأوس والخزرج اللتين كانتا في يثرب كانت بينهما حروب كثيرة في الجاهلية ، وحدث أن جلس إليهما بعد الإسلام يوما يهودي يدعى شاس بن قيس ، فذكرهما بما كان بين رجالهما من تطاحن في عدة حروب والتي كان آخرها يوم بعاث ، فحرّك فيهما العصبية الجاهلية من جديد ، وألّب بعضهم على بعض ،فعمد القوم إلى سيوفهم، وأوشكوا على الاقتتال وهم يومئذ مؤمنون، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ يقول : " أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ " وفي رواية : " أبدعوى الجاهلية ؟"، فما إن سمعوا قوله عليه الصلاة والسلام حتى ألقوا سيوفهم ،وعانق بعضهم بعضا .
ولمّا كانت العبرة في كتاب الله تعالى بعموم ألفاظه لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن هذا التحذير الإلهي سيبقى ساري المفعول إلى قيام الساعة، لأن القرآن الكريم هو رسالة الله تعالى العالمية والخاتمة للعالمين ، وهو تحذير يلزم كل مؤمن في كل عصر ومصر إلى غاية زوال هذه الدنيا .
وهذا التحذير مفاده أن المؤمنين قد يستهدفون من قبل أعدائهم في كل زمان خصوصا من بعض أهل الكتاب كما أشارت إلى ذلك الآية الكريمة ، وقد سماهم الله تعالى فريقا من أهل الكتاب حسدا من عند أنفسهم لما يرونه من أخوة ومحبة بينهم وهم في حظيرة الإسلام والإيمان ، فيرغبون في إفساد ما بينهم من مودة ، كما فعل أجدادهم من أهل الكتاب من 'قبل مع المؤمنين الأوائل من أوس وخزرج زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد ضمّن الله تعالى هذا التحذير إشارة إلى أن طاعة فريق من أهل الكتاب من شأنها أن تخرج المؤمنين من الإيمان إلى الكفر ، واستفهم سبحانه وتعالى استفهام استبعاد كما يقول أهل البيان أن يقع المؤمنون في الكفر وفيهم كتابه الكريم ، وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم الذي كان موجودا لحظة تحريش اليهودي شاس بن قيس بالمؤمنين من الأنصار أوسا وخزرجا ، ويستمر وجوده عليه الصلاة والسلام بين المؤمنين إلى قيام الساعة من خلال ما خلّف لهم من سنة مشرفة بعد موته ، وعليه يصدق عليه قول الشاعر :
فتى عيش في معروفه بعد موته كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
ويشير الله تعالى بعد ذلك في قوله : (( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم )) إلى أن العصمة من الوقوع في الكفر بعد الإيمان إنما تكون بالاعتصام به ، والعصم في اللسان العربي يدل على المنع ، ذلك أن كل من يعصم أحدا يكون مانعه مما قد يسمه بسوء . والوضع الطبيعي للإنسان المسلم هو الهداية، وهي التزامه صراط الله المستقيم ، ولا يكون ذلك إلا بتمسكه بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام : " تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي " .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين في هذا الزمان بما يحاك ضدهم من مؤامرات ماكرة وخبيثة تهدف إلى تشتيت صفهم ، واستباحة بيضتهم كما أيرد بذلك من كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين كما أخبرنا بذلك الله عز وجل . ومعلوم أن أعداء المؤمنين في هذا الزمان كثر لا يقتصر أمرهم على فريق واحد ،وكلهم يجمعهم هدف واحد وهو منع وحدة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها بغرض إضعافهم ، والطمع فيما حباهم به الله عز من خيرات تحت الأرض وفوقها ، وفي أعماق بحارهم .
والآيتان الكريمتان موضوع حديث هذه الجمعة لا يقتصران على تنبيه وتحذير الأوس والخزرج ممن كان يكيد لهم كيده الخبيث بل هو تنبيه وتحذير للمؤمنين في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، لأنه يلزم المؤمنين أن يتعاملوا مع كتاب الله عز وجل على أنه رسالته إليهم . ولما كانت العبرة في كتاب الله عز وجل بثوابته لا بمتغيراته ، فإن الثابت في هاتين الآيتين الكريمتين هو تحذير المؤمنين في كل زمان ومكان ممن يكيد بهم لشق صفهم ، وبث الصراع بينهم ، أما المتحول فيهما فهو اختلاف هؤلاء المؤمنين باختلاف عصورهم ، ذلك أن ما وقع للمؤمنين الأوس والخزرج زمن البعثة النبوية قد يقع أيضا لغيرهم في كل زمان إن لم يأخذوا التحذير الإلهي على محمل الجد كما فعل الأوس والخزرج .
والملاحظ اليوم أن المؤمنين في زماننا قد سادت بينهم الفرقة ، واشتد بأسهم بينهم ، وصاروا أعداء ، وقد أمرهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا إخوانا ، و تكاد الحدود بين أقطارهم تكون شبه مغلقة بل مغلقة نتيجة تحريش الكائدين لهم للإيقاع بينهم ، ولتعميق ما بينهم من خلافات وصراعات تهدر بسببها دماؤهم، وتسيل مدرارا ووديانا ، ولا نحتاج إلى أمثلة، فهي كثيرة يغني ذكر الواحد منها عن ذكر الباقي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
واستجابة لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم يلزم المؤمنين في هذا الزمان حكاما ومحكومين أن ينصاعوا إلى أمرهما بالاحتكام إلى كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يقع بينهم من خلافات وصراعات وعداوات مع الحذر ممن يحرشون بينهم على اختلاف مشاربهم وهم كثر في هذا الزمان، وذلك بشتى الطرق الماكرة التي لم تعد خافية على أحد . وعلينا حكاما ومحكومين أن نقول كفى للعداوة فيما بيننا ، كفى لإهدار دمائنا ، كفى من المقاطعات فيما بيننا ، كفى بإغلاق الحدود بين أقطارنا ، كفى ، وكفى ، وكفى ....مما نعلمه جميعا وما خفي أعظم ،وعلينا أن نقتدي بالمؤمنين من أوس وخزرج ، ونتعانق فيما بيننا كما فعلوا بعدما كاد المحرش بينهم يعيدهم إلى جاهيلتهم الجهلاء التي كادوا يبيدون فيها بعضهم البعض .
اللهم إنا نسألك الإيمان الصادق الذي لا ردة بعده ، ونسألك العمل بما أنزلت على رسولك عليه الصلاة والسلام ، ونسألك حبك ، وحب نبيك الكريم ، وحب المؤمنين ، واجعلنا اللهم إخوانا وعلى الدين أعوانا ، ولا تجعل للكافرين علينا سبيلا ، وانصرنا على من عادانا ، واجعل دائرة السوء على كل من أراد بنا سوءا ، وانصراللهم دينك ، واعل رايته ، وعجل لنا بوحدة تلم شعثنا ، وتنهي فرقتنا ، واجعلنا يدا على من سوانا ممن عادنا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 998