من وحي المشاعر الربيعية
الأجيال المطمئنة إلى ماوعد الله عباده الصالحين وأعد لهم البشريات الظليلات ،تبقى قلوبهم تعتصم بالوفاء لدينه القويم ، وبالأمل لوعده الكريم ،وتبقى تلك القلوب تنبضُ باليقين الذي لاتطويه الليالي الحالكات ، فأيام أمتنا تزخرُ بحفظ الله لهـا رغم كل الغارات المؤلمات خلال العصور السالفات ، فقد أنعمَ اللهُ عليها بحفظ قرآنها العظيم ، وسُنَّة نبيِّهـا الكريم صلى الله عليه وسلم وبمجدِها السابغِ ،وبالخيرِ الوريفِ الذي يعم ويزيد في زمن المحن والفاقات ، وبالإنجازات التي يُصاب أعداؤُها بالذهول حين يرون مايقوم به أبناء الأمة رغم القيود الثقيلة ، وإن فضل الله سبحانه على هذه الأمة لايتلاشى ، وإن أبناء الأمة آلــوا على أنفسِهم أن يكونوا السندَ الأمين ، والساعدَ القوي عند الشدائد والأزمات للأمة ولدينها ولأسباب عودة مجدها وخيريتها ، ربما يقول قائل : هذه محض مشاعر ، وحبذا لو أضاف إلى كلماته الثلاث كلمة رابعة لتكون من وحي المشاعر الربيعية .
و حيثُ تتجددُ الهممُ ، وتتحفَّزُ العزائمُ لتتابعَ لتعيد مجدَ الأيام المنصرمات ، وذلك المجد الذي أعلى صروحَه الآباء والأجداد منذ عهد النبوة ، وعلى مــر السنين ومنذ أن قامت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة . ولم تخل الحقب المتتالية من الأعباء الجسيمة ، والمكابدة القاسية ،ومن المكائد التي يتبناها أعداءُ أمتنا ، ولكن الله سبحانه ــ وله الحمد والمنة ــ حبا الأمةَ بقوة الإيمان واليقين ،و بالحكمة والوعيِ بطبيعة مافي الحياة من ابتلاءات ، وعلى هذا المنوال نسج رجالُهـا الكرامُ ، وعلى طريقه مَن ساروا قبلهم من الصالحين ، وبمنهجهم الذي عملوا بـه ، فنهضوا بدورهم الرائد ، ورسَّخوا أسباب الثبات على قيم الحق ، ولم يخذلْهم ربُّهم رغم ضراوة أعدائهم على مــر الأيام . وتبقى ــ بفضل الله ــ أسباب النجاح لعودة مباركة شاملة لأفياء ديننا الحنيف ، معتمدين على الله جلَّ وعلا ، ثم على مايتمتع به أبناء الأمة من إيمان بالله وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم من خلال الأخذ بسُنَّته الغالية ، وهاهم مازالوا يتنافسون على تقديم الصورة الناصعة لِما يجول في أنفسهم ، وأولئك ليسوا بالعدد القليل ،فالأمة اليوم ــ وبفضل الله ــ تعيش وتسأل الله التوفيق والتأييد ، فبورك صبرُها رغم مايُخيَّل للبعض من بعد أسباب السعادة والطمأنينة عنها، وبورك مايحمله أبناؤُها من وفاء وولاء وحب غامر لنبيِّهم الحبيب صلى الله عليه وسلم ، ومن تجرُّدٍ للعمل الصالح ، ومن تحمُّسٍ لنصرة دين الله تعالى . وبوركت مصداقيتُهـا النادرة النابعة من قلوب أفذاذهـا الأبرار مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف ، وسعيهم الحثيث لتعود خيريتهم إليهم ، ولتعم أرجاءَ الأرض بمشيئة الله تبارك وتعالى ، وما برحت المشاعر مشاعر الأمة حاضرةً في كل المناسبات التي تهمُّ عالمنا العربي والإسلامي حضورا فاعلا مميزا بصدق التعامل ، وبذل النصيحة ، وإشاعة روح الإخاء بين الشعوب .
نشعر بأننا نعيش تلك الأيام رغم كل الظروف ، ونشعر بضرورة تجديد الإيمان ، وشحذ الهمم والعزائمِ ،ونتمنى أن نسخر كلَّ طاقاتنا وقدراتنا ومواهبمَن هـم في جيلنا المعاصر من أبنائنا وبناتنا وأبداعاتٍهم ، ويظلُّ الشعور يقظا إيجابيا رغم كلِّ العقوبات الصارمة التي فرضتها الدول الباغية على أمتنا خلال الحقب التاريخية المتأخرة .
ولعلنا نرى أنَّ قيمةَ هذه المشاعر الأثيرة غذَّتْ وقفاتِ الثبات الصارم منذ أقدم العصور ، فالأمة هي الأمة والمشاعر هي المشاعر التي قوَّتْ شوكةَ الاستعلاء على الباطل الذي مازال يتقهقر أمام عنفوان قوة الإيمان بالله الولي الحميد ، والتأكيدُ على تلمُّسِ سبل النجاة ، والسعي الحثيث على تلبية وسائل الوصول إليها ، وعلى منظومة القيمة الروحية المتجددة في حياتنا وفي مشاعرنا ، والمتمثلة في أدائنا للفرائض والواجبات والسنن التي هي عناوينُ رؤى أولئك الأبرار من أجدادنا ، وهي ليست الهدف الذي نسعى للوصول إليه ،ولكنها الوسائل التي من خلالها نطرق أبواب السماء لتُفتح لنا ، ونناجي ربَّنـا آناء الليل وأطراف النهار ليتداركنا برحمته ونصرته ، فهو وحده المغيث في زمن لايسمع فيه نداء الثكالى والأيتام إلا هـو سبحانه وتعالى . وفي ذلك سعادتنا في ليلنا ونهارنا ، وفي حلنا وترحالنا . فنحن مقبلون على خير ــ إن شاء الله ــ وجادون في إيجاد أسبابه وقد علمناها ، ليشمل هذا الخير جميعَ ميادين التفاعل الإيجابي لسائر جماهير أمتنا على امتداد مساحاتها ، ولتسعد بالتالي أمتنا ، بل وشعوب الأرض جميعا : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . فالأعمال المترتبة على تلك المشاعر مثمرة ودانية ، وفتح أبواب المستقبل بيد الله وحده ، والمُشَمِّرِ لهـا عن سواعد العمل والإخلاص ، بهمم لاتعرف الكلل ولا التواكل ... فالتَّوَّاقون للأسمى والأفضل في كل شؤون حياتهم لايتعبون ولا يملون . وللأمة بشريات من نبيِّها الذي لاينطق عن الهوى إنْ هـو إلا وحي يوحَى ، ففي بشرى حملها إلينا الصحابي الجليل تميمٌ الداري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رســــول اللــــــه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيل ... ) إلى آخر هذا الحديث الشريف ، وفي الحديث الذي رواه عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق قال: فأخرج منه كتاباً قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً ( يعني قسطنطينية ) . وقد كان وتحقق كلُّ مابشَّر به المصطفى صلى الله عليه وسلم . فنسأل الله أن يهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأن يجمع شتات الأمة ، ويهبها القوة والعزيمة ، ليرهبها الأعداء الذين تريد لهم الأمة الخير الذي تريده لنفسها.
وسوم: العدد 1003