ما أكثر من يجيدون التفنن في تفسير قول الله تعالى: (لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )
ما أكثر من يجيدون التفنن في تفسير قول الله تعالى : (( لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )) ولكنهم في واقع الحال عاجزون عن ترجمته عمليا
يهون الأمر حين تناقض أفعال العوام أقوالهم ، وعذرهم في ذلك أنهم لا يعلمون ، وإن علموا قد لا يفهمون ما علموه ، وإن علموه أشكل عليهم تطبيقه أو تعذر لأن العادة والتقليد يأسرانهم، إلا أن الأمر لا يهون حين يقع أهل العلم فيما يقع فيه العوام من تناقض بين أقوالهم وأفعالهم .
وكمثال على ما يقع فيه هؤلاء من تناقض بين ما يقولون وما يفعلون خوضهم في تفسير قول الله تعالى : (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك )) ، فهم يجيدون التفنن في تفسيرهم لهذه الآية شكلا ،ومضمونا ، ولغة ،وسببا ، وسندا ... ويفيضون في ذلك واسع إفاضة ، ويستعرضون أقوال من سبقوهم في تفسيرها ، ويقارنون بين آرائهم فيها ، ويرجحون منها ما يرجحون ، ويردون منها ما يردون ، وكل ذلك جميل، ومحمود ، ومثير للإعجاب بعلمهم، وبموسوعيتهم، وقوة ذكائهم وذاكرتهم ، و بقوة حفظهم وسعة محفوظهم ...إلا أن تطبيقهم لمنطوق هذه الآية لا يعدو ما يفعله العوام فهم في ذلك سواء بما يسجل عليهم من فظاظة القول الدال على غلظة القلب .
وقد يجلس الواحد منهم يحاضر دون رفق بمن يتحلقون حوله من طلبة علم أو من عموم الناس أو من يتابعونهم عبر وسائل الإعلام والتواصل، فيميل إلى الاستخفاف بهم إما بطرح بعض الأسئلة عليهم في أمر يريد الحديث عنه لكنه يقدم بين يديه اختبارهم ليثب جهلهم به ، واستئثاره بعلمه وانفراده به وهو يتطلع إلى وجوههم ليجد فيها ما يدل على إعجابهم وانبهارهم بما يعلمه وهم يجهلونه فيتيه بذلك، وينتشي به انتشاء، وقد يفتح ذلك شهيته للمزيد من الاستخفاف والازدراء بهم من خلال اتهامهم بأنه لا يقرءون ، ولا يبحثون ، ويمضي في سرد عناوين مصادر ومراجع نادرة قد وقعت تحت يده أو هي في حوزته وهي مما يعز الحصول عليه ، وإن طلبت منه على سبيل الإعارة قصد الاطلاع عليها كان أبخل من مادر كما يقول المثل العربي ، ومادر هذا ،واسمه الحقيقي مخارق ـ لمن لا يعرفه ـ بخيل يضرب المثل ببخله لأنه سقى إبله في حوض، فبقي في أسفله ماء قليل فمدر أو تغوّط أو سلح فيه حتى لا يسقي بعده أحد ،وسمي لذلك بمادر. وهذا سلوك البخيل الذي لايمكن غيره مما عنده من علم ، وفي نفس الوقت يعيره بالعجزعن طلبه ، وهو الذي يجيد بلسانه ما لا يجيده بفعله ، ولا يخجل من نفسه وهو يردد حديث : " من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار " .
ومن الفظاظة أيضا أن يدفع في اتجاه تيئيس غيره من معرفة ما لا يعرفه إلا هو ، ويثبط عزيمته في مجرد التفكير في الاقتراب من حلبة هو وحده من يستطيع اقتحامها صولة وجولة ، ولسان حاله قول الحطيئة في هجوه الزبرقان :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولو وجد في عصرنا هذا أمثال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لألقى في حفرة الحطيئة كل من ييئّسون غيرهم من إدراك ما لا يدركونه إلا هم وحدهم من علم ومعرفة أو كما يظنون أو يخيّل إليهم ، وإن الظن والخيال ليخدعان.
ومن الفظاظة والغلظة أيضا قطيعة هؤلاء مع التواضع لغيرهم لأنهم يرون أن ذلك لا يليق بكبريائهم التي يخشون أن تمس إذا ما لان جانبهم تواضعا لغيرهم .
ومن صور فظاظتهم كذلك أنهم يستعلون على من يلين جانبه لهم، بينما يتوددون لمن يريهم الإعراض عنهم ، مع أنهم لا يجهلون عتاب رب العزة جل جلاله رسوله صلى الله عليه وسلم حين تلهّى عمن جاءه يسعى وهو يخشى ، وتصدى لمن استغنى عنه وهو لا يزّكى .
إنها لمعضلة كبرى أن يتقدم العلم عند هؤلاء أشواطا بعيدة ، لكن عملهم به يتخلف بهم في واقع الحال ، وهو ما يوقع في مقت كبير خص به الله تعالى الذين يقولون ما لايفعلون من أهل الإيمان .
وأخيرا نقول ليس أهل العلم كلهم سواء فيما ذكرنا من مناقضة الأفعال للأقوال بل فيهم أهل الفضل منهم تسبق أعمالهم أفعالهم ، وذلك فضل من الله عز وجل يختص به من يشاء .
وسوم: العدد 1004