( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )
من المعلوم أن القرآن الكريم باعتباره رسالة الله عز وجل الخاتمة والعالمية الموجهة إلى البشرية حتى تقوم الساعة، يتضمن أعظم بشارة على الإطلاق مفادها أن سعة رحمته سبحانه وتعالى لا حد لها مصداقا لقوله عز من قائل : (( عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء )) ، وهذا يعني أنه لا وجود لشيء في هذا الكون مهما كان تضيق به أو عنه رحمته جل في علاه . وسعة رحمة الخالق عز وجل هي مبعث رجاء وأمل في نفوس الخلق لدخول مجالها الواسع . وتكثر في كتاب الله جل جلاله إشارات إلى هذا الرجاء حتى أن بعض أهل العلم تناولت مؤلفاتهم الوقوف عند آيات الرجاء ، ففصلوا في القول ، وتحدثوا عن أرجاها كقوله تعالى : (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )) ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والرجاء عبارة عن شعور بأمل يدفع به اليأس عن النفس ، وهو توقع النفس ما فيه خير ونفع لها ، وتعلق القلب بالمرغوب . و لا مندوحة للإنسان عن الرجاء وإلا ضاقت به الدنيا كما قال الشاعر :
أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
ومع سعة رحمة الله تعالى ومغفرته وعفوه ، وهو ما يغري الخلق بتعلقهم بالرجاء فيه ، فإنه سبحانه وتعالى اشترط عليهم ألا يشركوا به شيئا ليتحقق رجاؤهم فيه ،لأنه هو وحده دون شريك من يرجى. ولقد استثنى سبحانه المشركين من تحقق رجائهم فيه وهم على شركهم فقال : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )) ، ولا يعقل أن يرجو الإنسان الله عز وجل وهو يشرك به غيره عبادة أو دعاء ... لأنه إن فعل ذلك تركه وشركه كما جاء في الحديث القدسي : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه " .
وفضلا عن شرط تجنب الشرك بالله تعالى كي يصح الرجاء فيه عز وجل، هناك شروط أخرى ذكرها الله تعالى في قوله : (( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )) . أما الشرط الأول فهو الإيمان بالله تعالى إيمانا لا يلابسه شرك ، وهو أول خطوات الرجاء تليه الهجرة ،والجهاد في سبيل الله . وقد ورد في كتب التفسير أن هذه الآية الكريمة سبب نزولها هو ما كان من أمر سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه وعمن كانوا معه وقد رصدت قافلة للمشركين، وقتلت، وأسرت ،وغنمت منهم ، وكان ذلك في شهر حرام، فرد النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن جحش الخمس الذي خصه به مما غنم، وشق ذلك على من كانوا في السرية وقد لامهم الصحابة على القتال في الشهر الحرام إلا أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا أقر فيه قتالهم المشركين في الشهر الحرام ، فطمعوا أن يؤجروا على ذلك، فنزل قوله تعالى : (( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )) ، فعدّ لمن كانوا في سرية ابن جحش إيمانهم ،وهجرتهم وجهادهم في سبيل الله وهو ما كانوا يرجونه من الله عز وجل ، وقد تجاوز عنهم وغفر لهم .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ آي الذكر الحكيم وليس بخصوص سبب نزوله ، فإن حكم هذه الآية يسري على المؤمنين إلى قيام الساعة ، علما بأنه لا يخلو زمن من وجود من يتعلق بالرجاء في الله تعالى ليغفر ذنبه ، ويقبل عمله ، ويدخله الجنة .
وإن ما خص به الله تعالى سرية ابن جحش ليشمل إلى قيام الساعة كل من آمن به إيمانا صادقا لا يلابسه ما يفسده من شرك أوغيره ، ومن هجر ما نهاه عنه ، ومن جاهد في سبيله ببذل كل ما في الوسع من جهد مهما كان لإعلاء كلمته عز وجل والتمكين لدينه وشريعته في الأرض.
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بشروط التعلق بالرجاء في الله تعالى كما حددها سبحانه وتعالى في محكم التنزيل وهي: إيمان صادق به ، وهجر معاصيه وجهاد في سبيله ، ولكل منها تحقق حيث يتحقق الإيمان بتوخي الحذر من أي نوع أو شكل من أشكال الشرك الناسف للإيمان . وإن الناس في زماننا هذا ليقع كثير منهم في أنواع من الشرك لا يلقون له بال حين يلتمسون رجاءهم في غير الله تعالى ، فيسألون المخلوق ما لا يملك، وما لا يعطي، وما لا ينبغي له، وما لا يستطيع مما يملكه، ويعطيه والله تعالى وحده القادر عليه.
أما الهجرة فتتحقق بترك ما نهى عنه الله عز وجل . وإن كثيرا من الناس لينشدون وبإلحاح الرجاء في الله تعالى وفي عفوه ومغفرته وجنته، وهم متورطون في ما نهوا عنه ، فأنى يتحقق رجاؤهم ؟
وأما الجهاد فلا يتحقق بالقتال فحسب بل يكون ببذل الجهد في خدمة ونصرة دين الله تعالى ورفع رايته ، ودعم شرعه بكل ما يتاح من وسائل وسبل ، بالمال وبالجهد، و باللسان، وبالقلم ،وبالفكر، وبالموقف... علما بأن كل نوع من الجهاد مهما كان يتطلب صبرا وثباتا مهما كانت الظروف ، وهو ما تصاحبه بالضرورة المكابدة والمعاناة كما جاء في قول الله تعالى : (( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )) ،ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن كل جهود في الدفاع عن الإسلام بكل الوسائل المتاحة لا تخلو من مكابدة ومعاناة وتقابلها عند من يعادونه ويشاقون الله ورسوله ، ويحاربونه ، ويمكرون به جهود من هؤلاء أيضا لكن المدفعين عنه يرجون من ربهم ما لا يرجوه أعداؤه من قبول ،ومن أجر وثواب .
ربنا أمنا بك واتبعنا الرسول ، فلا تحرمنا اللهم من واسع الرجاء فيك فإننا نرجو عفوك ومغفرتك ، ونخشى عذابك، ونطمع في ثوابك وجنتك. اللهم ارزقنا إيمانا صادقا ثابتا لا تشوبه شائبة ، وأعنا على هجر كل المعاصي ،وحل بيننا وبينها لطفا منك ، وهيىء لنا أسباب خدمة دينك ،وبذل كل الوسع في ذلك ، وبارك في كل سعي نسعاه من أجل ذلك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1007