( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم )
من المعلوم أنه لا أحد يمكنه أن ينفذ إلى قلوب البشر ، ويفعل بها ما يشاء أو يلقي فيها من المشاعر والأحاسيس ما يريد ،لأن الخالق سبحانه وتعالى استأثر بذلك دونهم. وكم من إنسان ظن أن زمام قلبه بيده ، وأنه يملك أن يتصرف فيه كما يشاء متوهما ذلك، لكنه يأتي عليه حين من الدهر فيتبخر هذا الظن ، ويجد قلبه ينفتح لما كان ينغلق دونه ، وفي هذا ما يدل على أن القلب البشري حيز لا سيطرة لبشرعليه .
وقد يقول البعض ما بال قوله تعالى : (( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )) محتجا بأن القلب يمكن أن ينفذ إليه ما يكون كسبا من عرض الدنيا ، والحقيقة أن هذه الآية الكريمة سياقها هو وصف لما تصير إليه قلوب من لم يرد الله تعالى لها أن تنشرح للإيمان والإسلام ، وهو ما يجعلها تتعلق بما يستحوذ عليها من عرض الدنيا ، لكن هذا لا يعني أن أصحابها يملكون زمامها بل قد تنتقل قلوبهم من حال إلى أخرى بإرادة الله عز وجل وليس بإرادتهم مصداقا لقوله تعالى : (( من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون )) ،فلا أحد من البشر يمكنه أن ينتقل من حال الصدر المنشرح للإسلام إلى حال الصدر الضائق به من تلقاء نفسه دون فعل الله تعالى . ولقد سجل القرآن الكريم أحوال صدور كانت ضيقة حرجة بالإسلام ، لكنها فجأة انتقلت في لحظة إلى قلوب منشرحة به ، ويكفي أن نستشهد على ذلك بحال سحرة فرعون الذين كانت صدورهم قبل انشراح للإسلام منصرفة عنه إلى السحر، والطمع في جوائز الفرعون ، وقد ران عليها ذلك إلى أن ظهرها الله تعالى من ذلك .
ومعلوم أن الله عز وجل يتحدى أن يستطيع بشر مهما كان النفاذ إلى قلوب الناس ، وإدخاله إليها ما يريد من مشاعر وأحاسيس ، وذلك مصداقا لقوله تعالى : (( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم )) ، إنه خطاب موجه بالأساس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى كل إنسان مهما كان ، ولن يبلغ أحد منزلة وقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يفيده إنفاق ما في الأرض للتأليف بين قلوب الناس ممن يشرح الله تعالى صدورهم للإسلام ، وإن التأليف بين قلوبهم إنما هو نتيجة عزته الدالة على قدرته وحكمته عز وجل .
ومعلوم أن التأليف بين قلوب المؤمنين يكون على مستوى المشاعر حيث يجعل الله تعالى بينهم ألفة فيتآلفون ، ويحب بعضهم بعضا ، وقد يكون ذلك بعد عداوة وبغضاء كما كان حال الأوس والخزرج في جاهليتهم قبل أن يشرح الله عز وجل صدورهم للإسلام . وتآلف القلوب يثمر المحبة ، وهي كنز ثمين لا يمكن أن يحصّل ولو ببذل ما في الأرض جميعا .
وعلينا أن نتدبر جيدا هذه النعمة الإلهية التي لا تقدر بثمن بحيث يلقي الله تعالى في قلوب المؤمنين محبة بعضهم بعضا إنعاما منه . ويكفي أن يفكر الإنسان في حصوله على نعمة من النعم المادية التي لا تقدرعنده بثمن ليدرك قيمة نعمة معنوية وهي ولوج حب من أراد الله تعالى أن يلج حبهم قلبه دون إرادة منه هو بل بإرادة الله عز وجل .
وقد يخدع بعض الناس نفوسهم بادعاء محبة بعضهم البعض ، وقلوبهم متنافرة لا حيز فيها للتآلف الذي تتولد عنه المحبة الحقيقية .
ومعلوم أن السر في تحصيل هذه النعمة العظيمة هو طبيعة دين الإسلام الذي إذا انخرط فيه الناس حصل بينهم بالضرورة تآلف ،لأنه من طبيعته أن يدفع ما يكون بينهم من تنافر قلوبهم قبل إسلامهم ، ويحل محله تآلفها .
وبناء على هذا يجدر بكل مسلم يقر بدخوله مربع الإسلام أن يستفتي قلبه عن محبة من يشاركونه الوجود ضمن هذا المربع الذهبي ، فإن أنس من نفسه أو لنقل من قلبه أنه يحبهم صدقا، فهو جدير بوجوده معهم في مربعهم ، وإلا فعليه أن يراجع انتماءه إليهم ، وكثير هم المسلمون الذين يصرحون بوجودهم في ذلك المربع ، ولكن قلوبهم خالية من التآلف مع غيرهم من المسلمين ، ذلك التآلف المنتج لمحبة حقيقية .
و معلوم أن المحبة داخل مربع الإسلام لها تجليات تعكسها المواقف التي قد تكون عبارة عن تضحيات من أجل البرهنة على صدق تلك المحبة كما جاء في قوله الله تعالى : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) ، وهو وصف خاص بالأنصار الذين ألف الله تعالى بين قلوبهم وقلوب المهاجرين، فأنتج ذلك محبة بينهم برهن عليه الأنصار بإيثار المهاجرين على أنفسهم والحالة أنهم كانت بهم خصاصة ،وعلينا أن نتصور أو نتخيل أصحاب خصاصة يعطون ما هم في أمس الحاجة إليه لغيرهم عربونا على محبتهم . وهذا السلوك لم يسقه الله تعالى وحيا يوحى إلى يوم القيامة إلا ليكون نموذجا يحتذى بين المسلمين حتى تقوم الساعة . وقد لا يقبل منطقنا في هذا الزمان أن يؤثر ذو الخصاصة غيره على نفسه ، ولا يستطيع استيعاب ذلك انطلاقا من واقعه ومن نفسه ، لكنه لو تدبر ذلك لعلم أنهم كانوا يستكثرون في نفوسهم نعمة تآلف القلوب التي لو أنفق ما في الأرض جميعا لم تحصّل، لهذا استرخصوا إعطاء ما هم في حاجة ماسة إليه لأنه لا يبلغ عندهم نعمة تآلف قلوبهم وقلوب من يؤثرونهم على أنفسهم من إخوانهم المسلمين .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، وهو تذكير المسلمين بنعمة تألف قلوبهم التي هي نعمة لا تقدر بثمن كما عبر عن ذلك الوحي ، والذي استدعى هذا التذكير هو تداعيات الحدث الكروي الذي عاشته شعوب المعمور منقولا ومبثوثا عبر وسائل الإعلام ،ووسائل التواصل الاجتماعي من عاصمة دولة قطر ، ذلك أنه لأول مرة تسجل حالة التآلف بين الشعوب المسلمة التي كانت تحضر المباريات الرياضية ، ولم تقف عند حد مشاهدتها بل كانت تعبر عن تآلف قلوبها حتى وإن كان الحدث هو تأهل بلادنا إلى دور النصف من هذه التظاهرة الرياضية . إن الذي بعث المحبة في قلوب المسلمين في البلاد العربية، وغير العربية هو تآلف أودعه الله تعالى فيها ففرحوا بما حققه أبناء بلد مسلم في لعبة يقع فيها التنافس بين الأمم ، وكل أمة تريد أن تكون هي الفائزة ،خصوصا وأن بعض الأمم تعتقد أن الفوز مقتصر عليها، ولا يجب أن يكون لغيرها خصوصا حين يتعلق الأمر ببلد مسلم . وإذا كانت بعض تلك الأمم قد استكثرت على بلد مسلم تنظيم هذه التظاهرة الرياضية لأنها في اعتقادها وحدها الوصية على هذا التنظيم ، فكيف تقبل أن ينافسها بلد مسلم آخر في الفوز بالكأس المعدة لهذه التظاهرة ؟ إن هذا التصرف أو هذا الموقف من بعض تلك الدول هو ما وحد مشاعر المسلمين ، ولم يكن تآلف قلوبهم على ذلك بفعل كرة محشوة بهواء كما قد يظن البعض، بل ذلك من فعل الله تعالى الذي تحدى أيا كان أن يبلغ تحقيق ذلك التآلف ولو أنفق ما في الأرض جميعا .
صنع ذلك التآلف تعاطفا مع البلد المسلم المنظم لتلك التظاهرة الرياضية وهو الذي لم يطلب ممن حجوا إليه لمشاهدة المباريات أكثر من احترام هويته الإسلامية مانعا ما يمس بها من تصرفات وسلوكات . ولقد واجه هذا البلد الانتقاد الشديد بل والاتهام والتجريم علما بأن المنطق يقتضي أن يحترم الضيف من يستضيفه .
ومما يؤسف له أن بعض من يدعون المسلمين إلى احترام من يستضيفهم من غير المسلمين ، ويوبخونهم إن لم يفعلوا ذلك ، سكتوا سكوتا لا يحسن حين تعرضت قطر لانتقاده المنتقدين، لأنها طلبت من ضيوفها احترامها بترك ما لا يليق أن يؤتى من أفعال فوق ترابها مما يدل على عدم احترامها .
وصنع ذلك التآلف أيضا تعاطفا كبيرا مع البلد المسلم الذي استطاع فريقه أن يصل إلى المربع الذهي في نصف النهاية ، والغريب أن ذلك التعاطف لم يقف عند حد التعاطف الرياضي بل تعدى الأمر ذلك إلى التعاطف مع القضية الفلسطينية ، بشكل لافت . وكانت كل تلك التداعيات نتيجة توحد شعور المسلمين بأنهم مستهدفون في هويتهم الإسلامية من طرف من يريدون تنصيب أنفسهم عليهم أوصياء، يفرضون عليهم ما شاءوا من قيم هوياتهم .
ولقد كانت هذه التظاهرة الرياضية بفعل نعمة التآلف التي هي هبة من الله تعالى سببا في انبراء علماء دعاة للتعريف بالدين الذي هو مصدر تلك النعمة ، وقد وفقهم الله تعالى إلى خير كثير لما علم في قلوبهم من حب الخير للعالمين، فأقبل عليهم الناس يستمعون إليهم ، ويكتشفون ما لا يريده خصوم الإسلام أن يعرف عنه وهو النعمة الكبرى . ومن يدري فقد يشرح الله تعالى له صدور من ذهبوا لمشاهدة مباريات لكنهم عادوا إلى بلدانهم بكنز ثمين ما كانوا يتوقعون أن يعود به أبدا ، والله تعالى فعال لما يريد .
وفي الوقت الذي كان هؤلاء العلماء الدعاة الأجلاء يدعون الناس إلى دين الإسلام بالكلمة الطيبة، انبرى بعض الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على هذا الدين لانتقادهم ،و هم يتهمونهم بأنهم مخالفون لتعاليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ناسين أنه كان يغشى محافل الناس أثناء تجمعاتهم ليعرض عليهم دعوة الإسلام وهم يومئذ أهل كفر وشرك . و بعض هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم أوصياء على الإسلام والناطقين الرسميين باسمه، وقد ظهروا في فيدوهات بلحى مسترسلة، وشوارب حليقة ، وعمامات وقد ميّزوا بذلك أنفسهم على غيرهم من المسلمين وهم يوبخونهم على حضورهم تلك التظاهرة الرياضية لأنها مجرد لهو ولعب ، وأنه كان عليهم أن ينشغلوا بقيام الليل ، وتلاوة القرآن ، وتعلمه ، وكأنهم قد كشفت لهم حجب الغيب، فأيقنوا أن من يخاطبونهم إنما هم من تاركي الصلاة ، وهاجري القرآن الكريم ، و تاركي تعلمه ، علما بأن أحد لاعبي الفريق المغربي هو حافظ لكتاب الله، وربما فاقهم في حفظه ومع ذلك لم تصرفه لعبة الكرة القدم عن الاشتغال به . ولقد أفتى أولئك المنصبون أنفسهم أوصياء على الإسلام، وهم بذلك يزكون أنفسهم باعتماد مظاهر وهيئات فاضحة لتلك التزكية الموقعة في الرياء عياذا بالله بأن حضور المسلمين في ملاعب الكرة منكرا ، وقد غاب عنهم أن نبي الله موسى عليه السلام قد اقترح على سحرة فرعون أن يكون اللقاء معهم يوم الزينة ،لأنه كان فرصة اجتماع الناس لمعاينة نزاله مع السحرة ، وقد أدى مهمته على أحسن وجه ، وكانت النتيجة أنه بزّ السحرة ، وأن الله تعالى غير حالهم من شعوذة السحر إلى الإيمان ، فلماذا ينكر من نصبوا أنفسهم أوصياء على الإسلام والمسلمين على العلماء الدعاة حضورهم التظاهرة الرياضية العالمية ، وقدر رأوا فيها فرصة سانحة يدعون فيها الناس إلى دين الله عز وجل ؟
ولو أن المسلمين أخذوا برأي هؤلاء، ولم يحضروا تلك التظاهرة ،فهل سيقدمون بذلك خدمة للإسلام وهم الذين أمروا بتبليغه للناس جميعا حيثما وجدوا ، وهم الأمة الشاهدة على الناس ؟
وأخيرا نقول إن هذا الذي حدث في قطر له ما بعده ، ليس على المستوى الرياضي فحسب بل على مستوى أهم من ذلك، نذكر منه التحرر من الشعور بالدونية أمام الغير والتبعية له ليس في المجال الرياضي فحسب بل أيضا الشعور بالتمسك بالهوية الإسلامية ، وهو تحد كبير ، جعله يطال مجالات أخرى أيضا حيث أحيى هذا الشعور ان المسلمين لم ينطفىء في قلوبهم نورالتآلف ، ولئن جمعهم حب الفوز في مباريات كروية ،فقد جمعهم حب فلسطين وبيت المقدس أيضا ، وكفى بهذا سببا يدعو إلى حضور هذه التظاهرة خصوصا في وقت يظن البعض أن القضية الفلسطينية قد انتهى أمرها إلى الأبد ، ولا يمكن أن تنهي وقلوب المسلمين هي حاضنتها .
اللهم إنا نسألك التأليف بين قلوبنا على حبك، وحب رسولك ،وحب دينك وكتابك ، وبصرنا اللهم بما يبلغنا ذلك ، ونعوذ بك من شرور الأنفس، ومن سيء العمل ، ومن الرياء والعجب ، ووفقنا اللهم إلى صالح الأعمال، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1011