من ذكريات شهر رجب، قبسات من هجرة الحبشة
مَنْ ذاق طعم الهجرة في سبيل دينه شعر بتعاطف خاص مع المهاجرين الأوائل، وشعر أنه معنيّ بدروس الهجرة وتوجيهاتها أكثر من سواه.
مقدمات الهجرة
بعد أن صدع النبي صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، وجهر بدعوته، بدأ العذاب ينصبُّ عليه وعلى أصحابه ألواناً، لا سيما من لم تكن له عشيرة قوية تحميه... فمِنَ التكذيب والسخرية، إلى الضرب بالسياط والسحب على الرمضاء في حرّ الظهيرة... بل إلى التصفية الجسدية.
وكان بعض الأصحاب يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابهم من بلاء: "ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟" فيحثهم - صلى الله عليه وسلم- على الصبر الجميل، ويؤكد لهم أنها سنّة الله في حَمَلة هذه الدعوة، وأن الله سينصر دينه، وسيعوّض المؤمنين الجنة جزاء صبرهم.
لكن التعرّض للبلاء ليس هدفاً عند المؤمن. إنه يصبر على البلاء إذا حلّ به، ويسعى للتخلص منه من غير أن يساوم على دينه ودعوته. وإذا كان هذا المسعى مشروعاً للفرد، فهو بالقائد أولى، وهو ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
موجز أحداث الهجرة
بدأت هجرة الحبشة الأولى في رجب للسنة الخامسة من البعثة. وكان الوفد الأول منها يضمّ اثني عشر رجلاً وأربع نسوة. وقد أمّر عليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعاد هؤلاء المهاجرون (أو معظمهم) في شوال، بعد أن مكثوا في الحبشة نحو شهرين، وذلك لِمَا بلغهم من أن قريشاً أسلمت. لكنهم وجدوا أمر قريش مع المسلمين أسوأ مما كان من قبل، فما قَدِرَ أن يدخل أحد من المهاجرين إلى مكة إلا بجوار واحد من زعمائها. وعندئذ وجّه النبي صلى الله عليه وسلم عدداً كبيراً من أصحابه إلى الهجرة ثانية، فهاجر في هذه المرة ثلاثة وثمانون رجلاً وثماني عشرة أو تسع عشرة امرأة، ومعهم أولادهم، وجعل عثمان بن مظعون أميراً عليهم.
وحين علمت قريش بما لقيه المهاجرون من أمن وتكريم عند أصحمة النجاشي، أرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة بمجموعة من الهدايا إلى النجاشي وبطارقته وحاشيته، في محاولة لطرد هؤلاء المهاجرين وإعادتهم إلى قومهم ليفتنوهم.
لكن محاولات قريش لم تنجح، وبقي المهاجرون في مأمنهم، وكان يعود منهم الواحد والمجموعة بين الحين والآخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما بعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة المنورة. حتى إذا كان العام السادس للهجرة النبوية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى من بقي منهم، وكانوا نحو عشرين رجلاً وعدداً من النساء والأولاد. فجاؤوا إليه في مطلع العام السابع عقيب انتصاره على اليهود في غزوة خيبر.
أهداف هذه الهجرة
إنّ همَّ الدعوة الذي يملأ نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وكمال حكمته، وبُعد نظره... وقبل ذلك كله، وحيُ الله عز وجل.. جعلته يختار الحلّ الذي يحقق جملة من الأهداف السامية.
فأما الهدف الأول فهو الفرار من الفتنة. وهذا الهدف ظاهر، وقد نصّتْ عليه كتب السيرة. قال ابن إسحاق: "فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء... قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صِدقٍ، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه... (فخرجوا) مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم..".
وأما الهدف الثاني فهو البحث عن قاعدة جديدة للدعوة، وعن مجال حيوي لها. فالدعوة في أجواء الاضطهاد، وإن كانت تهز النفوس والضمائر، فإنها لا تستطيع، في الغالب، أن تقيم الحوار الهادئ الذي يتسرب إلى الأعماق ويذيب الحواجز. وقد هيأت هذه الهجرة لعشرات من الصحابة أن يتعايشوا في الحبشة فيما بينهم بروح الإيمان، ويُشعّوا فيما حولهم نور الإيمان.
ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلحظ غير هدف تخليص أصحابه من الفتنة لأذِنَ للمستضعفين وحدهم بالهجرة، أما وقد كان معظم المهاجرين من بطون قريش، ممن لهم عصبيات تعصمهم من الفتنة، فإن البحث عن هدف ثان لهذه الهجرة أمر لا بد منه.
ومما يؤيد وجود هذا الهدف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى المهاجرين ليعودوا إليه بُعَيد أن أقام دولته بالمدينة، أو بعد انتصاره في غزوة بدر مثلاً.. بل تركهم إلى السنة السادسة للهجرة، بعد صلح الحديبية، وبعد أن أسلم النجاشي، وكان قد مضى على بدء مقام المهاجرين في الحبشة أربعة عشر عاماً.
والهدف الثالث هو إيجاد هزة في بيوتات قريش، فحين يهاجر كرام أبنائها ونسائها، من أمثال جعفر بن أبي طالب (الذي كان أبوه حامياً للنبي صلى الله عليه وسلم)، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي، وعثمان بن عفان الأموي، وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم قريش... فإن هذا يحرّك مشاعر الناس أيّما تحريك، لا سيما في بيئة تُقِيم للنسب والعرض وزناً كبيراً.
ويؤكد هذا المعنى أن أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى.. استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذِن له.. فلما كان ببعض الطريق لقيه ابن الدغنّة وهو يومئذ سيد الأحابيش، فقال: إنك لتزين العشيرة وتعين على النوائب... ارجع فأنت في جواري.
كما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان يومئذ على الشرك، رقّ قلبه لرؤية أشراف الناس يهجرون مكة فراراً بدينهم، وكان هذا محرّضاً له على التفكير في شأن الإسلام من جديد.
قالت ليلى إحدى المهاجرات إلى الحبشة مع زوجها: كان عمر من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما ركبتُ بعيري أريد الهجرة إذا أنا به، فقال لي: إلى أين يا أم عبد الله؟ فقلت: قد آذيتمونا في ديننا، نذهب في أرض الله. فقال: صَحِبَكم الله!. فلما جاء زوجي عامر أخبرتُه بما رأيت من رقة عمر. فقال: تَرْجين أن يُسْلم؟! والله لا يُسلمُ حتى يُسلمَ حمارُ الخطاب!.
وقفات مع بعض أحداث الهجرة
- عندما رجع بعض أصحاب الهجرة الأولى، ورأوا أن ظلم قريش لم يتبدل، دخل كل صحابي من هؤلاء المهاجرين في جوار بعض زعماء قريش.
بل إن هجرة الأصحاب إلى الحبشة كانت للدخول في جوار النجاشي، من قبل أن يُسْلم. ومثل هذه الأحداث كثير في السيرة النبوية، وهي تشير إلى أن للمسلم أن يستفيد من قوانين المجتمع المشرك، وأعرافه، ومن العصبية الجاهلية... في حماية نفسه من بطش الكفار وأذاهم، ما دام في هذا كله لا يعطي تنازلاً في عقيدته ودعوته.
- وحين ذهب وفد قريش إلى النجاشي قال له، وقدّم بين يديه الهدايا: "إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء". وهذا ما تفعله الجاهلية كل آن؛ تصف دعاة الإسلام وجنوده بما يحلو لها من سيّئ الصفات والأفعال.
- ونلاحظ الضبط والتنظيم في صفوف المهاجرين، ففي الهجرة الأولى لهم أمير، وفي الثانية كذلك، وحين المثول بين يدي النجاشي ينتدبون من يتحدث باسمهم، ولا يتنازعون الرئاسة والكلام.
- وكان مما قاله جعفر بن أبي طالب: "أيّها الملك". هكذا بأدب، وبكرامة!. "كنّا قوماً أهل جاهلية"، ويذكر من عورات هذه الجاهلية: "... ونُسيئ الجوار". وكأنه يُثير في نفس النجاشي معنى الترفّع على أن يُسيئ جوار هؤلاء المهاجرين. ويؤكد هذا المعنى حين يختم حديثه بقوله:
"خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجونا ألا نُظلم عندك".
وكان النجاشي، كما ينبغي أن يكون كبار الملوك، يُحسنون جوار مَن لجأ إليهم، ولا يؤخذون بتحريش المتحرشين، ويتثبتون فيما يُنقل إليهم، ويفكرون بحِلم وحكمة.
وفي أحداث الهجرة دروس كثيرة، كما في أحداث السيرة النبوية كلها، فهل مِن معتبر؟!.
وسوم: العدد 1016