الأنس بالله سبحانه وتعالى
عن أنس رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لقي رجلا يقال له: حارثة في بعض سكك المدينة فقال : ( كيف أصبحتَ يا حارثة؟ ) قال: أصبحت مؤمنا حقا. قال: ( إن لكل إيمان حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ) قال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأظمأت نهاري، وأسهرت ليلي، وكأني بعرش ربي بارزا، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتنعمون فيها، وكأني بأهل النار في النار يعذبون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصبتَ فالزم، مؤمن نوَّرَ اللهُ قلبَه( . إنه المؤمن الذي عرف حقيقة الحياة الدنيا ، وحقيقة الخلود في جنة أو نار ، وحقيقة أن صدق الإيمان يشرح صدر المؤمن ، فيعبد الله كأنه يراه .
والإنسان يخطئ ، والمسلم يذنب ، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل باب التوبة مفتوحا ، وجعل الاستغفار ميسرا لكل ذي قلب نوَّره الله بالإيمان ، وقد يرقى المسلم بهذا الإيمان إلى درجات عاليات ، بل إن الإسلام وهو دين الرحمة واليسر بشَّر المسلمَ المذنبَ بقبول توبته واستغفاره ، ومن منن الله على عباده أنه يغفر ذنوبهم بل إن لم يذنبوا لجاء الله بأقوام يذنيون فيستغفرونه فيغفر لهم ، فعـن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) رواه مسلم . وفي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: ( يا عبادي، إنكم تُخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم ) . فالمسلم كإنسان معرض للخطأ ، ولاقتراف الذنوب ، وللبعد عن جادة الصواب ، والله عزَّ وجلَّ وهو العليم بعباده وما يعتريهم من ضعف فيجنحون إلى ارتكاب الذنوب . والإنسان العاقل بعترف بافتقاره الدائم إلى عفو ربه ورحمته ، ولذا يلجأ إلى التوبة ويلوذ بالاستغفار ، وخصوصا في ساعات الليل التي هي محل المناجاة والاستغفار : ( وبالأسحار هــم يستغفرون ) . والذي يستغرق في اقتراف الذنوب ، وتأخذه لذائذ الحياة إلى المحرمات ، وينسى فضل الله عليه بقبول التوبة لو آبَ إلى ربه واستغفر . فإنه دفع بنفسه إلى عذاب الله يوم القيامة ، وحرم نفسه من النعيم الأبدي والأنس بالله في جنات الخلود .
فما دام المسلم قريبًا من ربه باستغفاره إذا أذنب ، ورجوعه عن خطاياه ، وأدائه حقوق غيره ، فهو في بحبوحة من فضل الله وعفوه ، بقول الله سبحانه وتعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) 33/ [الأنفال . فالإسلام جعل الاستغفار للمسلم موئلا للأنس بالله ، يلوذ به سبحانه وتعالى إذا أذنب ليغفر له ، ويلجأ إليه إذا ضاقت به الأحوال أو داهمته الأهـوال ، ويخبت في مناجاته للرحمن الرحيم يرجوه ويدعوه ولذا قال بعض العلماء : ( ويأتي الاستغفار بمعنى «الدعاء» عند فريق آخر، فكلُّ دعاء فيه سؤال الغفران فهو استغفار، إلا أن بين الاستغفار والدعاء عمومًا وخصوصًا من وجه، فيجتمعان في طلب المغفرة، وينفرد الاستغفار إن كان بالفعل لا بالقول، كما ينفرد الدعاء إن كان بطلب غير المغفرة ) .
هذا الباب هو باب الأُنس بالله ، وجواب حارثة في هذا الحديث يدل على تعلقه بالله ، وبما هــو صائر إليه يوم القيامة ، وما كان جوابه يتضمن اهتمامه بالدنيا وما فيها الآلاء . إنه نور الله ، نور البصائر التي وهبها الله للأتقياء الصَّالحين ، فميَّزوا بها قيمة الدنيا ، وقيمة مافي الآخرة من الفضل العظيم ، ومن النعيم المقيم الذي لم تــره عين ، ولم تسمع به أذن ، بل ولم يخطر على بال بشر . إنه الإيمان الذي يرقى بالنفس البشرية ‘ إيمان حقيقي لايعتريه شك ، ولا يلحق صاحبَه وَهَنٌ ، وحلاوة هذا الإيمان لـم تأتِ من فراغ أو خــواء وإنما هــو أن يرضى بما آمن به على وجه الإطلاق ، ولقد جاء في الحديث : (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً ) . وفي حديث آخــر : (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن توقد نار عظيمة فكان أن يقع فيها خير له من أن يشرك بالله ) . فطوبى للمؤمنين الذين يستغفرون الله آناء الليل وأطراف النهار ، طوبى للقوم الذين يأنسون بمناجاة الله والناس في غفلة أو لهــو أو نوم ، قال الله سبحانه: (أولئك هم المؤمنون حقاً) ، وتلكم من حقائق الإيمان . وذلكم هو الزهد الحقيقي بهذه الحياة الدنيا رغم مافيها من أسباب النعيم الدنيوي : ( الزائل ) .
*إضاءة
قَالَ الله تَعَالَى: (إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون ( 24/ يونس
*قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنَّعه الله بم أتاه).
وسوم: العدد 1017