( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون )
سبقت الإشارة في بعض أحاديث الجمعة التي تنشرعلى هذا الموقع أن القرآن الكريم زاخر بأوصاف المؤمنين ، وسردها فيه وهي تتلى إلى قيام الساعة إنما الغرض منه الإغراء بالاتصاف بها ، والحث على التخلق بها .
ومن أوصاف المؤمنين الواردة في سورة سميت باسمهم وهي سورة " المؤمنون " ، وهي أوصاف جاءت مباشرة بعد ذكر أوصاف غيرهم من الضالين في قوله تعالى : (( إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون )) ، أما ما وصف به الضالين فهو قوله تعالى : (( وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين أيحسبون أنمّا نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون )) ، ففي هذه الآيات وصف للذين لم يؤمنوا بربهم أو الذين أشركوا به مخالفين بذلك إرادته سبحانه وتعالى وهي توحيده توحيدا لا يلابسه أي نوع من الشرك، لكنهم أخطئوا جادة التوحيد، فكفروا وأشركوا ، وتفرقوا شذر مذر في عبادة أهوائهم ،وصاروا طوائف كل طائفة ترى أنها على صواب في كفرها وشركها ، وهي تختال بذلك على غيرها مع أن الجميع استهواهم الضلال وغرقوا في غمرته والموت وراءهم يطلبهم ، وقد غرهم ما أمدهم به الله عز وجل من مال وبنين ظانين أن ذلك من فيض نعمه عليهم وهم على ما هم عليه من ضلال يرونه صوابا ، والحقيقة أن الله سبحانه وتعالى إنما كان يملي لهم يستدرجهم بما أعطاهم لتنقضي آجالهم وهم على تلك الحال من الضلال لا يبالون بسوء العاقبة وسوء المصير .
وبعد ذلك ينقل الذكر الحكيم إلى سرد مجموعة من أوصاف المؤمنين المناقضة لأوصاف الضالين ، وهي متعالقة يفضي بعضها إلى بعض ، وأولها أنهم أولي شفقة مصدرها خشية الله تعالى ، وهي خشية وراءها إيمان به عز وجل وتوحيده دون أن يلابسه شرك ، ومن شفقتهم أنهم كانوا ينفقون من أموالهم، ومن كل ما يسد مسد الإنفاق مما ينتفع به المحاويج ، يفعلون ذلك بقلوب وجلة سبب وجلها أنهم على يقين من رجوعهم إلى خالقهم ، وأنهم سيبعثون من جديد كما خلقوا أول مرة و يسألون ويحاسبون ، ويجازون ، وهم من أجل ذلك يتسابقون في فعل الخيرات على اختلاف أنواعها ، سبقا يحزون به أعظم الأجور والتي تكون على قدر مسارعتهم في الخيرات .
وعند التأمل في هذه الصفات الحميدة التي أثنى الله عز وجل بها عليهم، نجد الخيط الرابط بينها هو مخافة الله تعالى التي هي مفتاح باب الإيمان به وتقواه ، وهي مخافة تترجم إلى سلوك بدافع الشفقة هو عبارة عن المسارعة في البذل والعطاء بلا حدود ابتغاء مرضاة خالقهم ، وطمعا في جزائه الجزاء الموفور الذي يوفّونه ،وهؤلاء هم الأكياس الذين أنعم عليهم الله عز وجل بنعمة خشيته التي لا تعود عليهم بالخير العميم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين من السقوط والتردي في غمرة الهلاك بسبب غفلتهم عن خشية الله عز وجل ، و الحذير من الظن الخاطىء بأن إنعام الله تعالى على من لا يخشونه هو مسارعة لهم في الخيرات دون الانتباه إلى أن ذلك إنما هو استدراج لهم لتزداد قلوبهم قسوة ، و يزدادوا ضلالا وغفلة حتى يأتيهم الموت بغتة وهم لا يشعرون .
وإذا ما تأملنا أحوال الناس في زماننا هذا وقد قارب عددهم الثمانية مليارات ، نجدهم عبارة عن أمم غارقة في غمرة ملذات حياة هي إلى زوال سريع وهي ، وكل واحدة تدعي أن ما هي عليه هو عين الصواب ، وكلها منتشية بما هي فيه من ترف ورفاهية، وتحسبهما من مسارعة الخالق سبحانه وتعالى لها في الخيرات ، ولا يخطر ببالها أنها إنما هي مستدرجة بذلك إلى حين ،ولا نجد عندها البتة سلوك الشفقة التي تأتي من خشية الله تعالى،لهذا فهي غارقة في النعم ، بينما أمم مستضعفة تعاني من الفقر المدقع ، ومن الظلم الصارخ ، ولا تجد من يشفق عليها مما هي فيه من سوء الحال .
ولقد رسخت الأمم المستكبرة في أفرادها طبع القطيعة مع خشية الله تعالى ، ولذلك انعدمت عندها الشفقة ، واسفحلت عندها القسوة والغلظة ، فها هي بعضها اليوم تنفق الأموال الطائلة في حروب عبثية ، وملايين الجياع يتضورون جوعا في كل أصقاع المعمور ، وهم
أولى بأن تصرف عليهم تلك الأموال التي تهدر في حروب مدمرة تهلك الحرث والنسل ، وتدمر الإنسان والعمران .
ولقد صار الفرد في تلك الأمم المستكبرة منشغلا إلى حد الهوس بنشدان ملذاته ، وهو غارق في غمرتها ،ولا يخطر بباله طرفة عين أن أجله قصير ، وأنه ربما حل به الموت بغتة وهو في سكرة غفلته .
والمؤسف بل المحزن أن يجاري بعض المسلمين مما يعانون من عقدة الشعور بتفوق أفراد تلك المجتمعات المستكبرة عليهم ، فيحذون حذوهم ، ويعيشون وفق نمط عيشهم لا يبالون بخشية ربهم ، ولا يشفقون الشفقة المنصوص عليه فيزدرون المحاويج إذا وقعت عليهم أنظارهم ، ويعبرون بقسمات وجوههم عن الامتعاض منهم ، ويعتبرونهم تنغيصا لما هم غارقون فيه من ملذات.
والمهم أن يدرك المسلمون قيمة خشية الله عز وجل التي ترسخ فيهم خلق الشفقة على من أوصى الله تعالى بالإشفاق عليهم من ضعاف خلقه شرط أن تأخذ تلك الشفقة طابعا عمليا وإجرائيا ،فوتكون عبارة عن إنفاق مما هو مادي صرف وما هو لا مادي أيضا لأن الإنفاق لا ينحصر في المادي دون اللامادي ذلك أن بذل الجهد و وصرف الوقت ، وإسداء النصح ، وحسن التوجيه ... كل ذلك من الإنفاق ، ولا يقل قيمة عن الإنفاق المادي سواء كان مالا أو عينا ...
وبسبب غياب خشية الله تعالى تقسو القلوب ، و يتعطل شعور الشفقة فيها ، فيقع من أصحابها الظلم بكل أشكاله ، وهم في غمرة غفلتهم لا يقدرون مغبة ما يصدر عنهم في حق مستضعفين قد تولاهم الله تعالى ، وحذر من يعاديهم بحرب كما جاء في الحديث القدسي : " من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب "، والخاسر الخسران المبين من آذنه الله تعالى بالحرب
اللهم إنا نسألك إيمانا راسخا ، ونسألك خشيتك التي تلازمنا ولا تنفك عنا ، ونسألك قلوبا لا تغادرها الشفقة ، ونسألك محبة الإنفاق في سبيلك ، ونسألك السبق في الخيرات ، ونسألك نعيم الخلد الذي لا يفنى ولا يبلى ، ونسألك رضاك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1018