معجزة الإسراء والمعراج كشف للغيب لتثبيت الرسول الأعظم وترسيخ الإيمان في قلوب المؤمنين
دون الخوض في الزمن الذي وقعت فيه معجزة الإسراء والمعراج لأن وقوعها أهم من تحديد زمنه ، سنقف عند دلالتها وقفة لن تخرج عما ورد في مؤلفات أهل العلم إلا أنها ستكون عبارة عن وجهة نظر الغرض من ورائها تنبيه المؤمنين إلى ما يمكن أن يفيدوه من هذا الحدث الغيبي المعجز والعظيم .
فمن المعلوم أن الإيمان بالله تعالى يتوقف على التصديق بما غيّبه عن الخلق في هذه الحياة الدنيا ومنه ما هو حادث فيها ، ومنه ما هو آت بعد زوالها . ولقد وصف الله تعالى المؤمنين بالغيب أنهم على هدى منه ، وهذا يعني أن هداهم لا يكتمل إلا بالإيمان به إيمانا راسخا لا يلابسه أدنى شك أو ريب . وكل مؤمن يخامره الشك في ما غيّب الله تعالى عن العيان في عالم الشهادة ، وأخبر به في محكم تنزيله أو فيما بلغه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، يكون ناقص الإيمان يجب عليه مراجعة إيمانه ليبلغ به مرتبة الهداية .
وإن الإسراء والمعراج وقع في وقت، وفي مكان كُذّب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يوحي إليه ربه بما في ذلك الأمور الغيبية التي أخبره بها ، ومن أجل تثبيته لمواجهة اتكذيبه جاءته منة إلهية لم يكن يتوقعها، فسافر سفرا لم يسافره المرسلون من قبل، وذلك في زمن قياسي لم يزد عن ليلة واحدة بالتقويم الزمن فوق سطح هذا المعمور حيث انتقل فيها من مكة المكرمة إلى بيت المقدس ، ومنه إلى سدرة المنتهى فوق السبع الطباق . ولا تقتصر معجزة هذا الحدث العظيم على التنقل عبر هذه المسافات الأرضية والسماوية الهائلة بوسيلة من أغرب الوسائل وهو البراق الطائر في زمن محدودية وسائل التنقل الطائرة في الجو أو المتحرك فوق الأرض وعلى سطح بحارها كما هو الحال في زماننا هذا بل يتعدى الأمر ذلك إلى وقائع هي في منتهى الغرابة تثير الذهول في النفوس، وتحتار فيها العقول من قبيل إمامته صلى الله عليه وسلم جميع المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في المسجد الأقصى ، وقد أحياهم الله تعالى جميعا من لدن آدم إلى المسيح عيسى ابن مريم عليهم السلام . وهذه الصلاة كانت عبارة عن تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عاين الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ممن قصهم عليه، وممن لم يقصصهم عليه على حد سواء كي يستيقن أن ما أخبره به من شأنهم هو الحق الذي رآه رأي العين . وفي تقديمه للصلاة بهم رفع لشأنه وقدره. وتلا ذلك أنه أثناء معراجه عاين بعضهم أحياء أيضا في كل سماء كان يحل بها صحبة أمين الوحي جبريل عليه السلام ، ويكلمهم ويكلمونه ،وما سؤالهم جبريل عن بعثته كلما طرق باب سماء من السموات السبع إلا تأكيد لما كان الله تعالى يخبرهم به عنه من قبل ، وكانت تلك اللحظات الغريبة العجيبة كشفا للغيب شهادة وعيانا .
ومن الغيب المكشوف لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وهو في معراجه مشاهد أخروية تتعلق بأحوال الخلق في النعيم وفي الجحيم، وهو مما أخبره به ربه سبحانه وتعالى في كتابه الكريم من قبل ، وقد جعله يعاينه هناك ولمّا يحصل وقوعه بعد باعتبار زمن الحياة الدنيا ، وهو حاصل باعتبار زمن الآخرة.
وعندما يستعرض المؤمنون وهم يتلون كتاب الله عز وجل أخبار النعيم والجحيم ، ويستعرضون مع ذلك المشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في معراجه ، يجدون تطابقا بينهما ، و يجد ون في وصفه صلى الله عليه وسلم تفصيلا لما أجمله كتاب الله تعالى ، وفي ذلك ترسيخ للإيمان في قلوبهم حيث تحصل لهم صورة مركبة من صور القرآن الكريم عن النعيم والجحيم ومن صورهما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولا يمكن أن يؤثر الانبهار بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في معراجه أوالحيرة منه على اليقين به ،لأن في القرآن الكريم إشارات سابقة إليه جاءت تفاصيلها فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام بصفته معاينا وشاهدا ، وما كذب فؤاده ما رأى من آيات ربه الكبرى التي وصفها لنا وصفا حيّا تغدو وتروح فيه الأخيلة البشرية المجنحة حسب درجة إيمان أصحابها دون أن يدركوا على وجه الحقيقة ما رآه عليه الصلاة والسلام، وما عاينه بل يعتمدون في أخيلتهم على المشاهد المألوفة عندهم في الحياة الدنيا والتي لا يمكن أن تبلغهم مشاهد لا عين رأتها ولا أذن سمعت بها .
ولهذا يعتبر إحياء ذكرى الإسراء والمعراج فرصة المؤمنين للتزود بيقين الإيمان وقياسه زيادة أو نقصانا ، فيحافظون على درجته في حال زيادته ، ويسمون به إلى أعلى درجة في حال نقصانه . ولقد حدد لنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه درجة إيمان هي الأعلى والأسمى وقد صار بها صديقا حين أخبره كفار قريش بما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر إسرائه ومعراجه ، فصدقه ولمّا يسمع منه ذلك مباشرة ، وكان في ذلك قوي المنطق والحجة حين قال لهم بعدما استفسر هم للتأكد أنه قد قال ذلك عليه السلام بالفعل مما استغربوه منه : " إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك ، أصدقه في خبر السماء غدوة أو روحة ".
وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تأكيد لخبرالسماء ، لهذا من يصدق خبر السماء لا يمكن أن يرتاب فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام بخصوص رحلته إسراء ومعراجا ، وإن هو فعل فقد وقع في تناقض صارخ مع نفسه إذ هو بذلك سيكذب ما هو أبعد من مشاهد الإسراء والمعراج، وهو خبر السماء المنزل عليه مسطورا ومقروءا.
وحري بكل مؤمن وهو يتلو آيات الذكر الحكيم أو يسمعها من غيره أن يستحضر الآيات الكبرى التي عاينها رسول الله صلى الله عليه في إسرائه ومعراجه ،لأنها تفصيل لما أجمله الذكر الحكيم الذي قد يصف النعيم أو الجحيم وصفا عاما يكون له تفصيل فيما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن قرأ المؤمن على سبيل المثال قوله تعالى : (( أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار )) يجد لذلك تفصيلا فيما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الجنات التي طاف بها طواف معاينة ، وإن قرأ على سبيل المثال قوله تعالى : (( وأما الذين كذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون )) يجد لذلك تفصيلا لما أخبر به عليه الصلاة والسلام من عذابهم معاينة .
وهكذا يصير حضور حدث الإسراء والمعراج عند المؤمنين حضورا دائما ما تلوا القرآن الكريم ، وليس مجرد حضور محصور في ليلة بعينها قد انشغل كثير من الناس بها عما حدث فيها ، وهم بخوضون في ذلك كل خوض منصرفين عمّا هو أهم .
وسوم: العدد 1020