معايير الإيمان في بعض آيات القرآن وبعض أحاديث سيد ولد عدنان عليه الصلاة والسلام
بداية ،لا بد من التذكير بأن الوحي المنزل من عند الله عز وجل في الرسالة الخاتمة للعالمين إلى يوم الدين على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، قرآنا كريما ، وحديثا شريفا ، يشكل مأدبة إلهية فيها غذاء الروح . ومن أراد أن يبلغ غاية التلذذ بهذا الغذاء ، فإنه يتعين عليه أن يصيب من كل أطباقها ، كما قال أحد دعاتنا الأفاضل ، شريطة أن يوفق في اختياره منها ، وهو عارف كيف تناغم ، وتنسجام، وتوافق، وتكامل، لأن منزّلها سبحانه وتعالى قد صاغها بتلك الكيفية ، لهذا من ندّت عنه كيفية صياغتها،يعدم لذتها على الوجه الأكمل.
ومعلوم أن امتداد نزول الوحي طيلة ثلاث وعشرين سنة، كان القصد منه اكتمال تلك المأدبة بتناغم ، وانسجام مكوناتها لأنها : (( تنزيل من حكيم حميد )) ، صاغها بحكمته التي يحمد عليها ، وبذلك يتلذذ من يقبل عليها بأطايبها . وغالبا ما تضيع فرصة هذه اللذة بالنسبة لمن يغفلون عن استيعاب ذلك انسجام مكوناتها ،وتناسقها، وتكاملها، فيضيّعون حينئذ على أنفسهم فرصة استيعابها ، ويُحرمونها الغذاء الروحي الذي لا مندوحة لهم عنه من أجل أن يحيوا حياة طيبة في دنياهم، ومآلا محمودا في آخرتهم .
و معلوم أيضا أن ما أوحى به الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ،يتضمن من جملة ما يتضمن معايير بها يقاس الإيمان به على الوجه الذي يريده من خلقه ، ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر بعض ما جاء منها في كتاب الله عز وجل، وهي كثيرة ، كقوله عز من قائل : (( إنما المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون )) ، فهذه الآية الكريمة، تتضمن ثلاثة معايير بها يقاس إيمان المؤمنين ، وهي:
معيار وجل القلوب إذا ذكر الله عز وجل ، ومعيار زيادة الإيمان إذا تليت آياته ، ومعيار التوكل عليه جل وعلا .وكل مؤمن يريد معرفة انتسابه إلى حظيرة الإيمان الانتساب الصحيح ، يلزمه عرض نفسه على هذه المعايير الثلاثة وبيانها كما يلي :
ـ أولا: معيار وجل القلب عند ذكر الله عز وجل ، ومما دل على هذا المعيار قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء في سياق حديثه عن السبعة الذين يظلهم الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله : " رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه " ، وهذا يعني أن الوجل ،وهو الخوف من الخالق عز وجل تحديدا ، لأنه خاص به دون كل أنواع الخوف التي تكون من المخلوقات،وهو أيضا مشروط بخلوة اتقاء للرياء المفسد للإخلاص ، كما أنه مشروط بانسكاب الدمع فيّاضا كمؤشر، ودليل على صحة حال الوجل .
ـ ثانيا : معيار زيادة الإيمان عند سماع كلام الله عز وجل، وهو يتلى، لأن فيه ذكر لله تعالى بأسمائه، وصفاته، وأفعاله ، وأفضاله ، ورحمته الواسعة ، وبأسه الشديد ... وكل ذلك موجب للوجل منه . ومما يؤكد زيادة الإيمان أيضا ما جاء في قوله تعالى، وهو يصف حال من كانوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم في جهاده ضد الكفر لنشر الإيمان : (( هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم )) ، وهذا يدل على أن السكينة التي كانت تستشعرها قلوبهم ، وهي حالة نفسية عبارة عن طمأنينة أو استقرار نفسي، إنما هي هبة ، ونعمة من الله تعالى، وهبها إياهم بسبب رصيدهم الإيماني لكي يزداد . وهي سكينة، تحصل أيضا لمن يتتبع تلاوة آيات القرآن الكريم بالتدبر الذي يهديه إلى ما به يطمئن قلبه ، أو بالأحرى ما يبلغه هبة ربه ، وتكون له بذلك زيادة إيمان .
ـ ثالثا : معايير الإيمان التوكل على الله عز وجل حق التوكل، الذي يدل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو أنكم توكّلون على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا " . ومعلوم أن تدبر هذا الحديث ، يجعل المتدبر يتمثل حال الطير الذي ينطلق طالبا رزقه ،ولا سبب له ، ولا تخطيط سوى ما وهبه الله تعالى من أجنحة يطير بها إلى حيث سخر سبحانه رزقه بتخطيط منه ، فيعود بشبع في رواحه بعد مخمصة في غدوه . ولا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة من التوكل إلا المتمثل حق التمثل لحال هذا الطير ،الذي لا يجعل مع توكله شيئا مما يفسده كما يفعل الإنسان حين يصرح لسانه بالتوكل دون أن يتشبع ذلك به قلبه ، وتشبع القلب إنما يكون بطمأنينة يقذفها فيه الإيمان الراسخ بالله تعالى ، والذي يزداد بسماع آياته التي تتلى ، ويزداد بوجل حين يذكر جل في علاه ، وبهذا يكون التناغم بين حال الوجل ، وحال زيادة الإيمان.
وغير هذه المعايير الدالة على الإيمان كثير في كتاب الله عز وجل ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما قال ، وما فعل ، وما أقر .
وقد يستأثر أصحاب الإيمان بما لا يتاح لغيرهم ، وهو أمر تعجب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له " ، ففي هذا الحديث معياران لتمحيص الإيمان وهما : معيار الشكر في السراء ، ومعيار الصبر في الضراء . وهما حالتان تتناوبان ، وتتعاقبان على كل إنسان مهما كان . فمن وجد في نفسه شكر خالقه في سرائه، ولم ينسه الانشغال بها الشكر، فهو مؤمن. ومن وجد في نفسه الصبر في ضرائه ، ولم ينسه الانشغال بها الصبر ، فهو مؤمن . وما سوى ذلك في السراء ، والضراء ناقض للإيمان . وعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يعكسه قوله : " وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
هذه نماذج تقرب التوفيق بين ما جاء في مأدبة الله عز وجل قرآنا، وحديثا أوحى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يكون التنسيق والانسجام، والتكامل بينهما بما يفتح به الله عز وجل من فهم على كل مقبل على مأدبته راغب في تغذية روحية شهية .
وما أحوجنا في تعاملنا مع مأدبة الله عز وجل إلى الاستفادة من لعبة تعلّم للصغار ، ولعلها مما وفد علينا من عند غيرنا ، ويتعلق الأمر بما يسمى " بازل " ،وهو عبارة عن قطع صورة تفكك إلى أجزاء ، وتخلط من أجل إعادة تركيبها ، وبذلك تقاس درجة ذكاء الصغار . فإذا ما استثمرنا تقنية هذه اللعبة ،أمكننا أن نركب معايير قياس الإيمان المبثوثة في ثنايا كتاب الله عز وجل ، وفي ثنايا أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم ، لنحصل على الصورة الكاملة للإيمان .
وعلى غرار النماذج المقدمة في هذا المقال ، والتي تعكس بعض معايير قياس الإيمان، يمكن استخراج غيرها من المعايير، لتكون النتيجة في النهاية هي جملة المعايير التي يجب أن يعرض كل مؤمن نفسها عليها لقياس المسافة التي تقربه من إحراز الإيمان الذي يريده الله تعالى لعباده المؤمنين .
وسوم: العدد 1039