ومن دروس الهجرة : السعيٌ والثبات
عند أهل السعيِ من رجالات الهدى ، لاتوجدُ خططٌ تُعلق على الجدران ، أو توضع على الرفوف بانتظار أن يُنجزَها آخرون ! أو توضع تحت بند التأجيل بانتظار جيشان نفسٍ بهُراء ، أو هيجان مشاعر خاصة حتى يتماهى السعيُ مع اضمحلالها . فحاجة الأمة للعلاج الشامل ـ اليوم ـ يحتم عليها أن لاتهتمَّ بالجرعات الإسعافية الطارئة لمشاكلها الكبيرة والمستعصية . ولن ينفع القعودُ لأن إصلاح آخر هذه الأمة لابدَّ له من السعي ، سعي البصير بعقيدته الإسلامية ، وبدربه النَّيِّر المبين الذي يسير عليه، سعي الذي عرف البداية ، وعرف الأعباءَ التي تنتظره على امتداد المسيرة ، والحرص على الوصول ـ بتوفيق الله ـ ليُتاح للسعي القوةُ والعزيمةُ والثَّبات على الحق ، إذ بها يُؤصِّلُ المضاءُ عمليةَ الإقلاع الدائم نحو الأعلى . فلا مكان للتسويف والتَّذبذب ، وإنما هو الإيمان واليقين بالله وحده الذي يؤكد للمسلم قدرته الفائقة على حسم الأمور ، وتجاوز الصعاب . وعدم الرضوخ للفشل ، وعدم الانصياع للعثرات . فالقلوب التي تسمو على حطام الدنيا لاتكترث مطلقا بزينة سراب الأهواء والملذات الفانية ، فليس لهذا الضياع من حظوة أو تقدير عند أهل تلك القلوب الطاهرات . فكل البيانات التي ترتفع بدرجات هذا الضياع تتهاوى على عجل أمام حقائق الفطرة التي فطر اللهُ عليها هذا الكون ومن فيه . فلا بقاء إلا لتلك المناهج المباركة من قِبَلِ أهل الدعوة الربانية مع أحداث هذه الدنيا الفانية . وبالتالي فلا نجاة ولا فوز إلا بما جاء به وحيُ السماء ، حيث تتطهر الأجسادُ من أقذار الدنيا ، ويسمو العقل بفكره ومنطقه ومآتيه ، ويصنع للمسلم المشاعر الصافية التي توجه مسيرته الإنسانيه المتوجة بالفتح من عند الله ربِّ العالمين .فبالأعمال الصالحات وبهذه القيم النَّيِّرات يتشكل المحورُ ذو الارتباط الوثيق بالله ، فيستعيد المسلم نشاطه المتقدم وحيويته المتوازنة ، فينأى عنه الارتباك والقلق مهما كانت الظروف ، ومهما كثرت الضغوط واشتدت الأزمات ، فإنه لاحول ولا قوة إلا بالله .
ففي الهجرة على سبيل المثال قيمٌ خالدة للأمة المسلمة ، فهي المَعْلَم الذي لن تُغيَّبَ آثارُه الشامخة ، ومآثرُه في بناء صرح المكانة العالمية لهذه الأمة ، حتى وإن جفاها بعضُ أبناء الأمة ، أو تغاضى عن العمل بها آخرون ، فإنها تبقى الصوت المدوِّي في ردهات أولي الألباب منهم ، فهي تزخر بفرائد الفوائد وعظيم العوائد ، في الحقب التي يمرون بها مطأطئين رؤوسهم ، أو قل هي تمــرُّ بهم مجبرين لوهنهم وحال ضعفهم واستكانتهم ، وهذا مانراه اليوم من حال أمتنا التي قد يتجاوز عدد سكانها على المليارين !
إنَّ سعي الرعيل الأول من هذه الأمةِ عند بدءِ الدعوة الإسلامية ، وعند اشتداد الأذى بالقلة المؤمنة ، وفي أيام الهجرتين ، وأيام لقاء العدو ... منح أولئك الأبرار الأطهار الابتسامة المشرقة أمام ظلمات القهر والظلم والبأس . وأراها ما وعدها اللهُ سبحانه ، فلاحت الجنَّةُ من وراء أُحد ، واستبشر الفردوس الأعلى بقدوم الشهداء يوم بدر ، وامتدت دروبُ الفتح نيِّرةً يوم الخندق ، وكانت العزةُ لله ولرسوله وللمؤمنين ، وهي باقية هكذا إلى يوم الدين . إذْ لو أن الدنيا تعدل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى فيها كافرا بوحدانيته شربة ماء . وبذلك السعي استبدل المؤمنون بالله ورسوله العاملون بكتابه وسُنَّة نبيِّه سفاسف الجاهلية الأولى بقيم انتمائهم إلى الأسفار الإلهية، فتغيَّرت أنفسُهم وأشرقت أرواحُهم ، واستشعروا بكل حواسهم الحيَّة المتألقة أن الأفراح الروحية الحقيقية ليست في طعام لذيذ أو شراب بارد أو لباسٍ زاهٍ أو في الترف البغيض مهما كان ، وفي أيِّ مكان وُجِد ،وإنما هو في اطمئنان القلوب وتعاطيها وتعايشها مع أسباب السكينة التي يمنحها الله للأصفياء من عباده ، فهم لايهربون من أيِّ واقع مهما كان مريرا ، ولا يعيشون وَهْمًا يبتغون من ورائه نوعا من الراحة ، ولا يتحركون مع ضباب التسويف الذي يستهوي النفوس المترهلة التي تذعن غالبا لدوامات القلق ، وتلجأ إلى ورشات الإصلاح الجزئي ، فلا هي استخارت ربَّها وأحيت نورَ إيمانها بربها ، ولا هي استشارت أولي الحكمة في أمرها ، وشدَّت ساعد التمكين لقدراتها . ولكنها استكانت لوسوسة إبليس ، واطمأنتْ في ميادين اللهو الذي أعدَّه بإتقان وخبثٍ مع عساكره من شياطين الإنس والجن . فتمتعت بإثارات باردة ، عمرُها سحابةُ صيفٍ مرَّتْ عجلى ، ثمَّ كانت أثرا بعد عين . فطلائع المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبما أنزل الله من وحي ، حافظوا على هذا الإيمان ، وضحوا من أجله ، رغم الحرب التي شنَّها الطغاة طغاة الجاهلية الأولى بكل مايملكون من قوة ومكر وغلظة . فلم ينحرفوا عن جادة الإسلام الواضحة ، ولا عاشوا مذبذبين خوَّارين متخاذلين ، بل كانوا يهتفون وهم يُعذبون أحد أحد ... إنه الثَّبات على الحق ، والحفاظ على قدسيةِ العهد الذي قطعوه على أنفسهم أمام ربِّهم ، وبينَ يَدَي نبيِّهم صلى الله عليه وسلم . فقرآنهم في قلوبهم ، وسُنَّة نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتفارق سلوكهم اليومي ، ولا معاملاتهم مع الآخرين . فبالصدق عاشوا مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبهذا الصدق كانت سيرتهم اليومية في مجتمعهم في معاملاتهم ، وشهد الله لهم بها ، فهم أنصتوا إلى كلام الله تبارك وتعالى : ( وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّه وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل/ 94. فلا بد من الالتجاء إلى الله عـزَّ وجلَّ ، ولا بد من شكره سبحانه وتعالى على عظيم فضله ورحمته وبره ، ومن خلال هذا الالتجاء وهذا الشكر يتضرع المؤمنون أن يثبتهم الله عزَّ وجـلَّ على الحق ، وينصرهم على عدوهـم ، ويمكِّن لهم قال تعالى : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَام إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان ) 11/12الأنفال
إنَّ السَّعي باستثمار قدرة المؤمن على تخطي الصعوبات ، وإزالة العقبات ، والخروج من منازل الظلمات ، بإضافة نور الهداية إلى تلك القدرة ، وتحويلها إلى عمل يُؤجر عليه السَّاعي العامل عند الله عـزَّ وجلَّ ، فالعمل المرضي عند الله عبادة ، والعمل الخالص لوجه الله ،والخالي من هوى النفس تحمله التقوى على رفارف النور . إذ تستقيم الأعمال بحُسْن النيَّة مع السعي الذي هو باب توطيد وتوطين القدرات الإيمانيةمن أجل عملية التغيير الخاصة بالمسلم كفرد ، وتغيير واقع المجتمع والأمة المسلمة بشكل عام . والسعي بالأعمال الراشدة المبنية على طاعة الله ورسولكان مفتاح أبواب الفتوحات الإسلامية ، واستجلاب لقلوب العباد ، وفي العلوم والمعارف ، وفي صياغة مناهج الرقي ، وبناء الإنسان البصير بالغاية والنهاية التي لابدَّ منها . فكان المجتمع الإسلامي بهذه المعادلة يقظا واعيا ، تسعى به مشاعرُه النظيفة السامية إلى مرابع السعادة ، حيث يتوسع هذا الشعور ليشمل جوانب الحياة كلها .
في بداية الدعوة الإسلامية ، ومع إسلام نفر قليل من الناس ظهرت آثار الصدمة على أهل الجاهلية الذين يمثلون الشرك والظلم والاستهتار ، فعملوا على ترجمتها إلى أنواع من الأذى لرسول الله r ولأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين . وهنا جاء السعيُ باستثمار طاقات المؤمنين ، من خلال حُسْن الصِّلةِ بالله ، وحسن الفهم عن رسول الله r فجاء التأييد من الله ، وظهرت معالمُ الفتح مشرقة في ظلمات الجاهلية الأولى ، وقد علم كلُّ مؤمنٍ ماله وما عليه فضحَّى في سبيل الله ونال ماوعده الله ، حين سعى وأدلج وهو خفيف الظَّهْرِ ، قوي العزيمة ، فلم يبال بالأذى ، ولم يخش سطوة القوى الظالمة الباغية ، رغم عنفوانها وكبريائها ، وقد علم بأنه صاحبُ الدعوة الخالدة ، دعوة التوحيد والرحمة لسائر بني آدم ، وهو اليوم يسعى لإتمام بناء الحياة الفاضلة على منهج رسول الله r الذي قال : ( إنَّ مثَلي ومثلَ الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية . فجعل الناس يطوفون فيه ويعجبون له ، ويقولون : هلاَّ وُضعت هذه اللبنة ؟! فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيِّين ) متفق عليه . فصلى الله وسلم عليه ، وجزاه عن الأمة خير الجزاء ، وفداه أرواحنا وما نملك r . لقد صبر المسلمون في مكة ، وصبروا في المدينة ، وازدادوا صبرا يوم انطلقوا إلى أرجاء الدنيا يعمرونها بالإسلام رغم الطغاة من علوج العرب والعجم . وكتب الله لهم النصر كثمرة من ثمرات ذلك السعي الكريم . ومن دروس الهجرة المباركة نتعلم الصبر والثبات على الحق :
سعيُكَ اليومَ أحقُّ=من قعودٍ فيه حُمْقُ
فامضِ بالنَّفسِ أبيًّا=ساقها لله شـــوقُ
وانشد الرفعةَ وانهضْ=ليس للقاعدِ سبقُ
وتأمَّلْ في أُناسٍ=بينهم في السعيِ فرقُ
*** = ***
إنْ دهاكَ الظُّلمُ فاصبرْ=إنَّ وعدَ اللهِ حقُّ
لم يدمْ ظلمٌ ولكنْ=في نفوسِ النَّاسِ خرقُ !!
مالطاغوتٍ بقاءٌ=وله مـا يستحقُّ
كلُّ بغيٍ سيُوارَى=إن بدا في الصَّبرِ أُفقُ
*** = ***
أيُّها المسلمُ جـدِّدْ=إنَّنا لانُستَرقُّ
لم أجدْ بَرًّا جبانًا=ردَّه بالخوفِ رشقُ
إنَّ قرآنَكَ نورٌ=وإباءٌ لا يُشقُّ
يهبُ الناسَ أمانًا=فيه من دنياكَ عِتْقُ
وسوم: العدد 1041