( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر )
مما ابتلى به الله عز وجل عباده المؤمنين لتمحيص إيمانهم أعداء من الكفار والمشركين والمنافقين يكيدون لهم كيدا . وإذا كان عداء ي الكافرين والمشركين جليا ، فإن المنافقين أشد عداء لهم ، لأنهم يخادعونهم بإظهار الإيمان لهم ، وإبطان الكفر والشرك ، وهم بذلك أخطر شريحة عليهم خلاف الكافرين والمشركين الذين يعلنون عداءهم لهم صراحة ، الشيء الذي يجعل المؤمنين يحذرونهم .
ولقد كثرت في الذكر الحكيم أوصاف شريحة المنافقين وأحوالهم مع المؤمنين ، وتآمرهم عليهم مع الكفار والمشركين . ولما كانت العبرة بعموم لفظ آي الذكر الحكيم ، لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما قضى الله تعالى من أحكام في تعامل المؤمنين مع المنافقين مستمرة إلى قيام الساعة ، لأنه لا يخلو زمن من الأزمان من وجود منافقين يضمرون الشر والسوء للمؤمنين . ولا يستقيم القول بأنهم كانوا زمن الوحي فقط ، وبأن ما ذكر الله تعالى في الذكر الحكيم يخصهم وحدهم ، وهذا ما لا يقبله المنطق والعقل ، لأن الرسالة الخاتمة إنما ختم الله تعالى بها رسالاته لتتضمن أحكاما تهم وتعم العالمين .
ومن جملة ما حذر الله تعالى منه المؤمنين ، كيد المنافقين في قوله عز من قائل في محكم التنزيل : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )) ، والتأمل في هذه الآية الكريمة من سورة آل عمران يستوقفنا عند نداء الله عز وجل على عباده المؤمنين ، ومعلوم أن في النداء تنبيه، وفيه شد للانتباه ، وهو هنا يسبق نهيا ومنعا ، ولا ينهى عن شيء أو يمنع منه إلا إذا كان فيه سوء أو ضرر أو خطر . والمنهي عنه في هذه الآية الكريمة هو اتخاذ المؤمنين أولياء من غيرأنفسهم ، والتحالف معهم . وقد جاءت عبارة النهي عن موالاة المؤمنين من ليس منهم من المنافقين في منتهى البلاغة، حيث شبه الله تعالى هذه الموالاة بالبطانة التي تدل في الحقيقة على الأثواب الداخلية اللصيقة بجسم الإنسان ، وتلبس فوقها ثياب تسمى الظهارة ـ بكسر الظاء ـ لأنها تكون ظاهرة . ولما كان الولاء يدل على قرب وانسجام بين من يوالون بعضهم البعض من الناس ، فقد جعله الله تعالى بمثابة اتخاذ بعضهم بعضا لبطانة . ومعلوم أن الناس في جاهلية العرب، كان بينهم ولاء بحكم عقيدتهم الوثنية الجامعة بينهم ،إلا أنه حين أسلم بعضهم وآمنوا ، وظل البعض الآخر على جاهليتهم، نشأ صراع بين عقيدة الشرك ، وعقيدة التوحيد ، وانتفى الولاء بينهم إلا أن بعض من آمنوا بالله عز وجل ظلوا يحافظون على ولائهم لأهل الجاهلية ، وصاروا ضحايا خداع هؤلاء خصوصا المنافقين ، كما كان عليه الحال في المدينة المنورة زمن نزول الوحي ، وكان هؤلاء المنافقون يضمرون الشر للمؤمنين ولا يبدونه ، فنبه الله تعالى هؤلاء إليه ، وحذرهم منه . وسرد الله تعالى بعد النهي عن موالاة المنافقين بعض ما يضمرون من شر للمؤمنين في قوله : (( لا يألونكم خبالا )) أي لا يقصرون ، ولا يدخرون جهدا من أجل إشاعة الفساد فيكم ، وقد جاء تعبير الآية الكريمة عن هذا الفساد بالخبال ، وهو مثل الخبل الذي يصيب عقل الإنسان . وربما دل هذا التعبير أيضا على استهداف عقول المؤمنين لإفساد آرائهم وأفكارهم وتدبيرهم . ولم يقف الآية الكريمة عن حد تحذير المؤمنين من سعي المنافقين إلى كل ما يفسد عليهم أحوالهم، بل أضاف الإشارة إلى ما كانوا يودونه من وقوعهم في العنت فيهم ، وهو شدة سوء الحال ، وذلك مما كانوا يخفونه ، ولا يبدونه ، تماما كما يفعلون حين يظهرون إسلامهم ويخفون كفرهم أو شركهم، إلا أنه كان يصدر عنهم من الكلام ما يفضح نفاقهم ، وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة في قول الله تعالى : (( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر )) ، والذي يفهم من هذه الآية الكريمة، أن ما كان يفوه به المنافقون للمؤمنين، هو مؤشر على ما كانوا يخفون من شدة البغض لهم ، وهو أكبر مما كانوا يعلنونه بألسنتهم ، ويفصحون عنه .
ومن أجل تنبيه المؤمنين إلى خطورة المنافقين عليهم ، خاطب الله تعالى عقولهم بقوله : (( قد بيّذنا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )) ، وتلك الآيات أو الأدلة ،هي ما كانت ألسنة المنافقين تصرح بها ، وهي ما كانوا يدبرونه للمؤمنين من كيد يشيع في أحوالهم الفساد ، وهم يسرهم بذلك ، فهذه كلها آيات وأدلة يدركها العقل.
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هي تنبيه المؤمنين إلى خطر المنافقين عليهم ، وهو خطر قد يغفلون عنه من خلال إغفال ما ساقه الله تعالى من أدلة عليه . وقد يذهب البعض إلى أنه لا يجوز أن يشبه الناس الذين يخالطون المؤمنين اليوم بالمنافقين كالذين كانوا في زمن نزول الوحي ، وهذا خطأ كبير ، لأن الله تعالى لم يخبر عن المنافقين في الرسالة الخاتمة للعالمين ليكون القصد من وراء ذلك مجرد الإخبار عنهم، بل أخبر عنهم لأنهم يوجدون في كل العصور والبيئات بين المؤمنين ، وحيثما وجد المؤمنون إلى قيام الساعة . ولو انتبه المؤمنون اليوم إلى الأدلة على نفاق المنافقين، والتي نبههم الله تعالى إليها ، واستعملوا في ذلك عقولهم كما أمرهم لتبين لهم بجلاء أمر من يعايشونهم من منافقين .
ومن أجل تبين ما جاء في الآية الكريمة المتضمنة للتحذير من المنافقين في زماننا هذا ، وتحديدا في هذا الظرف بالذات الذي يعاني فيه إخواننا في فلسطين إبادة جماعية على أيدي الصهاينة وأعوانهم الصليبيين اعتقادا والعلمانيين ممارسة ، نجد أن بعض المحسوبين على الإسلام والإيمان ادعاء، مع ولائهم الظاهر للصهاينة وللعلمانية الغربية، يعبرون بمواقفهم المخزية وحتى بأفواههم عن الشماتة بالفلسطينين ، وهم يتسلون بمحرقتهم ، ويتفرجون عليهم ، مع أنه بمقدورهم نصرتهم ، وكف الموت والدمارعنهم ، وإغاثتهم بالطعام والشراب والدواء ، والوقود في عز قر الشتاء بين الردم ، وبين مياه المجاري ،أليس هؤلاء يألونهم خبالا ؟ أليس ما يعبرون عنه بغضاء ، أليس ما تخفي صدورهم أكبر ؟ ألا يجدر بالمؤمنين أن يستعملوا عقولهم للكشف عن منافقي هذا الزمان ، والحذر والحيطة منهم ؟
أليس انصراف كثير من المؤمنين إلى متابعة مباريات كؤوس لعبة كرة القدم ، في هذا الظرف بالذات ، و هو ظرف الغفلة عن محرقة الفلسطينين ، وعن نصرتهم لدى كثير من المؤمنين ، دلائل على أنهم غفلوا عن قول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون )) ، فهل عقل هؤلاء المؤمنون الآيات البارزة الدالة على النفاق ، والواضحة وضوح الشمس في وضح النهار ؟
وهل إلى هذا الحد بلغت غفلة الأمة المسلمة ؟ ألم يكن الأجدر بها أن تعلن حدادا على ضحايا الإبادة الجماعية في أرض الإسراء والمعراج ، والتي أبيد أهلها بالآلاف دفاعا عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، وبموجب هذا الحداد تقاطع على سبيل المثال مباريات كؤوس لعبة كرة القدم التي تجرى في هذا الظرف بالذات ، ليكون ذلك تعبيرا عن تداعي جسد الأمة بسبب شكوى الفلسطينيين، الذين يرسلون مئات الرسائل يوميا طلبا لنجدة إخوانهم المسلمين المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها ؟ ألا يعتبر انصراف الإعلام في بلاد الإسلام عن المتابعة المستمرة لمحرقة الفلسطينيين إلى نقل التظاهرات الرياضية ، والسهرات الفنية خيانة فاضحة لهم وخذلانا ؟ أليس هذا من آيات النفاق التي حذر منها الله عز وجل ؟
اللهم إنا نبرأ إليك من أن نخذل إخواننا المجاهدين في سبيلك بأرض الإسراء والمعراج خذلان المنافقين لهم ، ونعوذ بك من مثل نفاقهم .
اللهم ثبت أقدام عبادك المجاهدين بغزة والضفة ، وأفرغ عليهم صبرا ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك الذي لا يقهر ، والق الرعب في قلوب أعدائهم الصهاينة ومن والاهم ، ونكس اللهم ،راياتهم ورايات المجرمين الذين يؤيدونهم من كفار ومنافقين ، واخزهم يا ربنا ، اللهم احفظ المجاهدين من بين أيديهم، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم، اللهم عجل لهم بنصر عزيز قريب ، ترفع به راية دينك العظيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1067