من ظلال البيت المسلم ... إلى رحاب المجتمع
لايعيشُ البيتُ المسلمُ في دائرة مغلقة بعيدا عن مجتمعه ، ولا هو بالمفرط في حقِّه عن أن يرى العالم الإنساني ، ولا هو بمنأى عن المجتمع الذي يتعامل معه في أمور الحياة ومجالاتها المتعددة. فبقدر ما لأهمية التربية الإسلامية القويمة في البيت ... تأخذ تلك الأهمية أبعادها ودورها التطبيقي الواسع، ومجالها العملي حين يفتح الفرد المسلم أبواب بيته ليخرج إلى الناس ، يخالطهم ويعيش بينهم، حيث كان عمله ووجوده معهم . والإسلام لا يأمر بالانطواء والانعزال ، والمسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لايخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ، رغم كل المفاسد . والانحلال والضلال الذي ملأ الأرض ، ووصل إلى كل المجتمعات بفضل عطايا هذه الحضارة البائسة ، وليس معنى ذلك أن يعيش المسلم بين الناس بلا أثر فعال ، وبلا عطاء له دورُه في نفوس الآخرين . فليس هناك ما يسوِّغ للمسلم أن يعيش ذليلا أو إمَّعة إن أحسن الناسُ أحسنَ ، وإن أساؤوا أساء ، ، أو يقبع في ظل زاوية بعيدة عن ساحة الحياة الاجتماعية ، بل يخالط الناس بالقيم العالية التي تربَّى عليها في بيته المسلم ، ومع أبوين صالحين أنشآه على البر والتقوى والعمل المجدي ، وعلى حمل مآثر دينه ويرى في الناس مَن يبحث عن الحقيقة ، ويلتفت إلى الإسلام الذي أثَّـر في حياة الصّالحين المشهود لهم ،ولا ينظر إلى عامة مَن يسمون بالمسلمين ، فهم لايمثلون روح دينهم القويم . فهؤلاء نسأل الله لهم الهداية ، فيهم جعلوا من أراذل الخلق لهم أسوة ، واتَّبعوا الذيول وتركوا القامات التي تشهد لهم الأيام بالمكانة الاجتماعية العالية من علماء الأمة ومفكريها الأبرار ، وهو يخشون ممَّن يجب أن لايُخشَى منهم ، من زعماء الضَّلال ، ومع هذا فما زال في الناس من الخير الذي يغري الدعاة إلى كسر الحواجز مهما كانت تلك التي يمكن أن يشعر بوجودها لكثرة الفساد ، فلابد من علاقة وثيقة بين الأسرة والمجتمع ، وأن تكون هذه العلاقة إيجابية ، تمنح الوجه الاجتماعي في سُمُو الأخلاق ، وفي خدمة نهضة البلاد ـ وفي الصياغة الواعية لمتطلبات المستقبل الذي ينشده أبناءُ هذا المجتمع . وتربية الأسرة المسلمة لأبنائها التربية الصحيحة ، سينعكس بشكل إيجابي على واقع المجتمع ، فالعلماء العاملون والمصلحون والعباقرة والأبطال ... كل هؤلاء وغيرهم في رحاب المجتمع الكبير ماكانوا إلا من أبناء الأسر ، تلك الأسر التي ربَّت أبناءَها على قيم الأمة الحميدة ، فكانوا مشاعل هداية ، ورواد رقي في نهضة المجتمع . فالأسرة التي تربي أبناءَها على الفضائل والمآثر ،فإنها تقدم للمجتمع الأعضاء الصَّالحين المصلحين بأفعالهم الحميدة وأدائهم السليم المحمول على مزايا الأخلاق من الصدق والوفاء والتَّواد ... وغيرها من المزايا التي ماعادت تخفى على أي مسلم ، وهي مبثوثة في أسفارِ إرشادات ديننا الحنيف الذي ماترك خيرا إلا وحبَّب المسلمين للقيام به ، ولا شرًّا إلا وحذَّرهم منه . فعلى الفرد واجب لابد من أدائه ، وله حقوق لابد أن ينالها . فلا يلحق الضرر بالآخرين إذا لم يقم بأداء الواجبات ، وهو لا يطمئن إذا لــم ينلْ مالــه من حقوق ، فله أن لا يُحرم من تلك الحقوق ، ولا يناله الاضطهاد ، ولا يجوز أن يوضع أي فرد من أبناء المجتمع في دوَّامة الكبتِ والقهر .. ولعل هذه المواقف حذَّر منها البيت المسلم عن طريق سير رجالات الإسلام على مرِّ التاريخ ، وقادتهم الغر الميامين ، وتم التحذير منها من خلال التربية المنزلية التي تسبق دخول الأبناء في المحيط الاجتماعي ابتداء من الجيران فمحيط الحي الذي يسكنون فيه فالمدرسة ، ثم بعد مراحل التعليم ، أي حين يخالط نماذج عديدة من أبناء المجتمع ، وعلى مختلف المستويات والبيئات التي قد يعمل فيها .
وربما يدخل المجتمع عن طريق إبداعاته ومشاركاته المميزة ... عالما أو مفكرا أو أديبا أو موظفا أو صاحب عمل ... إلى بقية المرافق التي يعمل فيها هذا الابن . وهو في كل هذه الأمكنة ومن خلال المواقف التي يشارك فيها يجب أن يكون المواطن الصَّالح النافع لمجتمعه . وليتذكر هنا أنه خليفة على هذه الأرض وعليه حقوق أوجبها الله عليه لإعمار الأرض ومعايشة الناس الذين يعيشون على ظهرها ، كي يتعرف الإنسان على أخيه الإنسان .فالإنسان خليفة في الأرض ــ كما ذكرنا ــ وهو المخلوق الذي أكرمه الله ، حيث خلق آدم عليه السلام بيديه، ونفخ فيه من روحه، قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) 30/ البقرة . فلا إفساد في الأرض ولا سفك الدماء ، ولا اقتراف المآثم والموبقات ، ولا عبادة الطاغوت من دون الله الخالق الكريم ، ومن أجل ذلك منَّ الله سبحانه وتعالى على عباده بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام هادين للناس ، ومبشرين بالرحمة والرضوان لمَن آمن بالله واتبع الرسول الذي جاء بشرع الله . ومنذرين الكافرين المعاندين الذين عبدوا الأصنام ، واتبعوا الشيطان . الذي أخرج أبا البشر آدم عليه السلام من الجنة ، لعداوة إبليس له ، بل إنَّ سأل الله أن يبقيه إلى يوم القيامة ، ليضل الناس ويمل على إفسادهم ، قال تعالى في كتابه الكريم مخاطبا آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله : ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى )123/124/ طــه .ومن هذا الباب تأتي أهمية التربية الأولى في البيت ، حيث يُنَشَّأُ الأبناء والبنات على ملة التوحيد ، وعلى اتِّباع هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، مع متابعة جادة وحكيمة للأبناء لكيلا يقعوا في حبائل الشيطان ، ولا يغرهم بالله الغرور . فمن أعرض عن دين الله واتَّبع الأهواء فقد باء بالضَّلال ، وأوقعه الشيطان في مستنقع الخسران . والتأكيد على الأسرة المسلمة في البيت المسلم على تعليم الأبناء منذ الصغر أمور دينهم وأمور دنياهم، وتنمية قدراتِهم وإبداعاتهم والابتعادِ عن اضطهادهم أو كبتهم إذ لا يُمكِنُ لهم أن يعيشوا بمعزلٍ عن العالم وما يحدث به من تطورٍ وتقدّم، وكذلك فإنّهم يتلقّون المعارِف المختلفة الجيدة منها والسيّئة، ولا بُدَّ من تهيِئَتهم وتجهيزهم ، بقوة الإيمان بالله سبحانه حتى لا يُصابوا بالصّدمة أو الذُّهول ممّا قد يجدونَهُ أمامَهُم من أمورٍ تَتعارضُ مَعَ تعاليمهم ومَبادئهم. ولا بدَّ من متابعة سيرة الأبناء ، وخصوصا بعد اندماجهم في المجتمع ، وتقديم المَشورة والنّصح والتّدخّل في الأوقات المناسبة . فمَن الخطأ أن ينشغلَ الأب بالبحث عن الرّزق أو أنْ تنشغل الأم بالأعمال المنزلية والزيارات ويُهملان الأبناء .
ومع انتشار وسائل الاتصال على نطاق واسع ، وظهور الفتن المجحفة بحق الشباب والشابات بشكل خاص بعد أن أصبح العالم الكبير كقرية صغيرة ـــــ كما يُقال ـــــ تكون المهمة بالدرجة الأولى على مدرسة البيت المسلم ، تلك المدرسة التي لاتغلق أبوابها أبدا ، ولا تطوي مآثرها في التربية السامية ، فالتعارف والتآلف بين الأمم والشعوب أمر من الله سبحانه ، لخير البشر ، ولعل هذا الانحدار والعداوات بين الأمم ماكانت إلا بسبب البعد عن دين الله . ولعل الأمم والشعوب تصحو من جديد ، وتؤوب إلى الله البارئ الكريم لتسعد وتتآخى ، فقيمة شريعته غالية هادية لما أحل الله أو حرم . ولعل صوت الإسلام ، يدوي في أرجاء المعمورة ، والعمل الإسلامي يتخطى اليوم مافرضتْه الجاهلية المعاصرة ، ويكشف مايُدبَّر للناس عامة وللشباب خاصة . والصحوة الإسلاميه على أيدي أبناء المجتمع الإسلامي تغمر الناس بالطمأنينة والأنس وتعود إلى خالقها :( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ) . وهو دين الأخوة القائمة على محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ودينه القويم ، وهذه المحبة المنبعثة من جلال الفطرة التي فطر الله الناس عليها هي أسمى تصور للإخاء الإنساني، وأجل تعارف يتوصل إليه العقل البشري والوجدان الذي يهب الشعور بقيمة الأخوة والمودة بين بني آدم عليه السَّلام .فلا المصلح الذاتية ، ولا المنافع الزائلة، يمكن أن تؤكد هذا الإخاء، وإنما هو التعارف والأخوة في الله على هدي مما ورد في كتاب الله ، وعلى نور مما جاء في سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، حيث تلتقي القلوب الطاهرة المؤمنة، وتأتلف في الحياة الدنيا، وعلى أمل أن تلتقي في ظله يوم لا ظل إلا ظلة . من هذا المنطلق يدخل الفرد المسلم دائرة المجتمع الكبير ، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعين الضعيف، ويغيث الملهوف ، وينجد ذا الحاجة ، ويصر على دفع الأذى عن الناس ، ويقوم بما ألزمه دينه من واجبات. بالموعظة الحسنة ، وإن لاقى من بعض أبناء مجتمعه النأي عمَّا يدعو إليه أو الصَّد وعدم القبول ، حين يدعو الضالين إلى فعل المؤمنين ، وحينما يحذر من حوله من الفساد وصوره المتألقة بالشهوات والمطرزة بالملذات ، ومن انحدار بعض المظاهر الحضارية ذات البريق الأخاذ كأنها السراب المضلل أمام الدروب . وهنا نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أذاهم خير من من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) . فالمسلم يحمل حقوق المجتمع التي كلفه بها دينه الحنيف ، ويؤديها على أحسن وجه ، وهنا تتجلى أيضا التربية الإسلامية المنزلية ، ويظهر مقدار تأثيرها في أبنائها ، وبالتالي يظهر تأثير الأبناء الصالحين في المجتمع الذي يعيشون فيه .
الفرد المسلم - وهو يخرج من بيت أهله - يجب أن يكون عضواً نافعا لأمته ، باراً بأرحامه، وفيا لأبناء شعبه، مطمئناً في ظلال دينه ، قوياً بإيمانه ، متفتح البصيرة بنور قرآنه ، صامداً دون دعوته ، لا ينهار أمام رياح الشهوات ، ولا يتزعزع تحت مطارق الإغراء ولا يكون إمَّعةً تجرفه التيَّارات الشيطانية في هذا العصر المكر لتمير حياة الناس ، ولْيحذر من أن يتأقلم مع كل الآراء والأفكار . بل إنَّ المسلم الصادق مَن وطَّن نفسه على ما جاءت به تعاليم الإسلام، فإن أحسن الناس كان من أوائل المحسنين الفاعلين الخير، وإن أساء الناس كان أول المنكرين على أهل الشَّر . فيدخل المسلم المجتمع وقد تزود من دار أهله المسلمة من خير الزاد ، وولج الباب العريض للأمة طيبا مباركاً مهديا متمثلاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن عمر رضي الله عنها حين قال : ( المسلم أخو المسلم لايظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ) متفق عليه . وسوف يجد مَن يحاول تغيير ما عليه الناس من سنن وآداب إلى ما يخالف شريعة الله في مكان عمله، أو يلتقي بهم ... فإن إرشادات أهله تطل عليه قوية راسخة يستأنس به في ظلمات مجتمع هذا الزمان الذي قد يزيغ أفراده، و يشردون عن جادة الصواب، وهذا الضوء من التربية المنزلية يمكنه من التحرك بحرية وحيوية ، وبشيء من المعرفة دون اضطراب ، وهو يرى ويواجه شتى التصرفات ، ويكون على حذر من الزلل والانسياق، فيقف مع الحق بحزم مشهود وثبات لاتزعزعه الأطروحات الفارغة التي تعادي منهج الحق .. وبهذا يكون في مدار السياح الشرعي المكين ، فلا يضعف أمام المفسدين ، ولا يستسلم للغاوين ، ولا يجالس الفاسقين ويعاشرهم ، وهذا بطبيعة الحال لا يمنعه من العيش مع الجميع بوجهه المشرق، وبخلقه الإسلامي، وبنصحه وإرشاده، فالدين النصيحة كما ورد عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الذي ولد ونشأ وعاش في بيت مسلم يقتدى بمزاياه مَن يخالطه . ويقتبس من سجاياه مَن يخالله ، وهو يمنح من يحيا معهم سمو آداب الإسلام ، وعظيم رحمة الله سبحانه للتائبين ، ويضع أمامهم مقاصد الإسلام في أوامره ونواهيه ، وينتزع من نفوسهم دنس الأدران والآثام ويلقيها بعيداً . فهو يعطي للمجتمع المثل الرائع . والنبراس عن نظافة المجتمع الذي يريده الإسلام . المسلم لا يُحل لنفسه ما حرم عليه وعلى الناس، ولا يبغضهم ، ولا يقلل من شأن أحد منهم. ولقد جاء عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنـه قال : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا ، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فو ق فوق ثلاث ) متفق عليه. فيعيش الشاب المسلم بهدى نبيه عليه الصلاة و السلام يكون بعيداً عن كل مظاهر البغي والعدوان ، فلا يظلم أحدا ولا يبغي على أحد ، ولا يحتقر مسلماً مهما كان ، فالناس لهم كرامتهم ولهم صلتهم بالله ، فرب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ، كما ورد عن رسولنا عليه الصلاة والسلام ، ولا يغش ولا يخدع لأنه من غش المسلمين فليس منهم ، ولا يطلق لسانه فيما حذَّر الله منه ، ولا يسب ولا يتكبر . ولا يتعالى بالباطل على عباد الله . بل يجب أن يكون المساعد في قضاء حوائج الناس . فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة ، أقبل على جلسائه فقال : ( اشفعوا تؤجروا ، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب ). متفق عليه . إن الأخذ بهذه الخصال، والتمتع بهذه السجايا تجعل من الإنسان أخا ودودا للإنسان ، ويعيش عضواً مثاليا في المجتمع ، يساعد في بنائه ، ويشد عضد أبنائه. فلا يوجد أقوى من هذه الروابط التي تجعل المسلم يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، يحب له من الخير ما يحبه لنفسه ، ويكره لأخيه مايكره لنفسه من الشر والأذى والفاقة وغيرها. وإن هذا التآخي لهو من أروع صور المثالية التي كان يحلم بإيجادها الفلاسفة أو المصلحون ... وقد فاتهم جميعا أن ما جاءت به شرائع الله هي الظل الوريف لكل المُثُل العليا، وهي من مزايا القيم الإسلاميه في التربية القويمة في بناء المجتمع الفاضل الذي يحلم به المصلحون . وهي قيم إيجاد الإنسان الصالح . ولا يخفى على أحد أيضاً ما قدمته بيوت الإسلام من عباقرة الرجال وأفذاذ المخلصين الذين سطروا في أسفار الخلود رفعةَ مآثرهم ، وجليل أعمالهم . ومن هنا يتأكد لكل ذي عقل واعٍ وقلب سليم أهمية التربية التربية الإسلامية ومناهجها التي تبني الأمة الصَّالحة لإعمار الأرض تحت أفياء المودة والرحمة ، يقول الله تعالى مخاطبا نبيَّه صلى الله عليه وسلم : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) . وعاش عليه الصلاة والسلام أسوة حسنة مباركة ، وشهد لـه ربُّـه فقال عــزَّ وجـلَّ : ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) 4/ القلم .
وإننا لنجد أن البون شاسعا بين فرد خرج من بيته راسخ العقيدة ، قوي الإيمان، حسن السيرة والسلوك ، يؤثر بما يحمل من خير وحق وهدى ، ولا يتأثر بما يجده من الفساد الأخلاقي والانحلال في بيئات المجتمع المختلفة ، وبين الآخر الذي خرج من بيت أهله خاوي الصدر من كل القيم الإنسانية ، ومن دواعي الأخــوة التي تتأرج بالوفاء والإيثار . ليجد نفسه في بيئة الشر و الشهوات والإغراءات التي تسوقه إلى الأماكن التي يتحكم فيها شياطين الإنس والجن . ليعيش مريض القلب ، مضطرب الفكر ، ضعيف الإرادة ، أعمى البصيرة ، لا يستند إلى عقيدة ربانية ترعاه وتحميه . فهو لا شل بين أنياب حياة قاسية تستعبد من اتبع هواه وكان أمره فرطا ، تمزق فكره ووجدانه المذاهب الباطله، وتفترسه المخدرات ، وتسترقه الرذيلة المقيتة ، بل ربما يساق إلى الخيانة العظمى لأمته، وما ذاك إلا لأنه عاش بغير تقدير لما أعد الله له في الآخرة من حساب و عذاب .
ياأيها الناس ... هنا يكمن السر العظيم في التربية الإسلامية المنزليه . حيث يطمئن الوالدان على حياة أبنائهما وبناتهما في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وحيث يجدان مَن يدعو لهما بعد فراقهما ، فهذه التربية التي يراها بعض الناس لاقيمة لها ، فهجروها وربما حاربوا قدسيتها ومكانتها العالية عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم صدمتهم العاقبة المريرة وقد خسروا أولادهم في الدنيا قبل الآخرة ، وقد عضُّوا على أيديهم ندما وحسرة على مافرطوا ، ولكن هيهات فقد فات الأوان !
المحرمات ... الموبقات ... الآثام ... الكبائر ... وغيرها من مرادفاتها البغيضة هي عنوان الفساد الذي نهى الله سبحانه وتعالى عن ارتكابه ، وهذه المحرمات والكبائر من الذنوب إذا ما سيطرت على سلوك الإنسان ، واستحوذت على مشاعره ، فقد غرق بين أمواجها المتلاطمة ، وهذا شأن مَن اتخذ إلهه هـواه ، فإنَّــه فقد عقله ، وآذى روحه ، وأغلق أبواب السماء على تطلعاته العاليات ـ يقول المولى تبارك وتعالى : ( أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *) 43/44/ الفرقان . وهذه المنكرات المستقذرة تطوي القيم التي جاءت بها شريعة الله سبحانه . بل تنسي وبلا مبالاة حقيقةَ العبودية لله ، وقد يموت مرتكبوها على الكفر ، وأما وقد عمًّت الأرض وغشيت البلاد والكثير من العباد ، فذلكم هو الإفساد الذي لاتنكره بعض الدول ، بل تحميه ، بل ربما تدعو إلى تفعيله نكاية بدين الله القويم ، فالإفساد هنا نقض للميثاق الذي أراده الله للناس ليسعدوا ويفوزوا في الدنيا والآخرة ، وأما عاقبة هذا النقض المريع فهي الخسارة الأبدية الكبرى لأهل الإفساد يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ 27 / البقرة . ويستحقون هذه الخسارة الفادحة . إنه الخلود في دركات جهنم والعياذ بالله . لقد جحد المفسدون نعم الله عليهم ، وأدبروا عن نداء الوحي لهم ، وشجعوا الناس للأخذ بهذه المنكرات . أفلا يستحقون هذا الجــزاء . ويومئذ يفرح المؤمنون الفائزون برضوانه سبحانه وتعالى .
أبُنَـيَّ واكبتَ الطريقَ مؤيَّـدًا = بالصَّالحاتِ ذُكِــرْنَ في القرآنِ
ماتاه مَن جعلَ الشَّريعةَ نهجَه = وبها تفوزُ قـوافـــــلُ الركبانِ
شوقُ القلوبِ إلى لقاء إلهِــهـا = والفوز زهــوُ الفوزِ بالرضوانِ
فاحذرْ معـاشرةَ الذين تنكَّروا = للفتحِ هــلَّ بطاعــــــــةِ الرحمنِ
إنَّ الفسادَ جريمةٌ لم تُرْتَكَبْ = إلا لــغيٍّ عـــــــــــاثَ في الإنسانِ
فاسجدْ لــــــــــربِّ العرشِ في عليائـــــــه = واهجرْ فلولَ عساكــرِ العصيانِ
وسوم: العدد 1070