(( هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان ))
حديث رمضان : الحلقة الثالثة
من المعلوم أن الله عز وجل قد شرف شهورا من السنة القمرية لوقوع أحداث عظيمة فيها من قبيل أمره نبيه إبراهيم الخليل بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام . ولقد اقترن هذا البلاء العظيم بفرض الحج الركن الخامس من أركان الإسلام على المسلمين . وعلى غرار ذلك ،فرض عليهم الركن الرابع ، وهو صوم شهر رمضان لاقترانه بنزول الوحي فيه أول مرة ، وهو أعظم حدث على الإطلاق ، ذلك لأن القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة من رب العالمين إلى الناس أجمعين حتى تقوم الساعة ، وتنتهي فترة الحياة الدنيا . ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنّث بغار حراء على طريقة نبي الله إبراهيم عليه السلام وهو صائم. والله عز وجل وحده عليم بحكمة تلقيه عليه الصلاة والسلام القرآن الكريم، وهو صائم ، وعنده أيضا وحده علم الحكمة من إحياء ليالي رمضان بصلاة التراويح التي يستعرض فيها القرآن الكريم من أوله إلى آخره عملا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أن أفضل ظرف يسعف المسلمين ويعينهم على تدبر الرسالة الخاتمة التي وجهها الله تعالى للبشرية من أجل سعادتها في الدنيا والآخرة، هو الظرف الذي يكونون فيه ممسكين عن أقوى شهوتين، شهوة البطن، وشهوة الفرج، وهما من الشهوات الشاغلة لهم عما ينفعهم ، في دنياهم وأخراهم، وعلى رأس ما يهمهم تدبرهم الجيد للرسالة الخاتمة .
ومعلوم أن النفوس المنصرفة عن تلك الشهوتين ترقى من طبيعتها المادية إلى طبيعتها الروحية التي تتناسب مع الطبيعة الروحية لكلام الله عز وجل المفارق لكلام الخلق ، وإن نزل بلسان بشري ، وليس استعمال الناس لهذا اللسان في التعبير عن أحوالهم كاستعمال الله عز وجل له ، فهو لا يقول إلا الحق ، وهم لا يسلم كلامهم من باطل ، وهو يعبر عن هذا الحق باستعمال اللسان العربي بأقصى درجات البيان المعجز لهم .
ولقد ذكر الله تعالى بعد افتراض الصوم على عباده المؤمنين في أيام رمضان المعدودات أنه أنزل في مثلها رسالته إليهم مصداقا لقوله تعالى : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان )) ، ولقد جاء في كتب التفسير أن المقصود بالهدى، هو ما في كتاب الله عز وجل من إرشاد للناس إلى مصالحهم العامة والخاصة المتعلقة بها، والتي لا تتعارض معها ، كما أن المقصود ببيّنات الهدى، هو الدلائل على وحدانية الله تعالى ، وعلى صدق رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكذا على صدق كل ما غيّبه سبحانه وتعالى من أمور عالم الغيب ، ومن بعض أمورعالم الشهادة . ويسمي كتاب الله عز وجل تلك الدلائل آيات ، وترد لفظة آية في كتاب الله عز وجل كتسمية للفواصل القرآنية ، كما أنها تدل على العلامة، والأمارة، والدليل، والحجة ، والعبرة ، والمعجزة ، وهي معان ودلالات متداخلة بحيث تدل على بعضها البعض أحيانا ، ويفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل التمثيل لا الحصر فيما يلي :
ـ (( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك )) ، البقرة ، الآية 129.
ـ (( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ))، البقرة ، الآية106.
ـ (( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك )) ، البقرة ، الآية 145.
ـ (( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بيّنة )) ، البقرة ، الآية 211 .
ـ (( وقال لهم نبيّهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت ...)) ،البقرة ، الآية 248.
ـ (( وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس )) ، البقرة ـ الآية 259 .
ـ (( قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام )) ، آل عمران، الآية 41.
ـ (( وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها )) ، سورة الأنعام ، الآية 25 .
ـ (( وجعلنا الليل والنهار آيتين )) ، سورة الإسراء ، الآية 12.
ـ (( واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى )) ، سورة طه ، الآية 22.
ففي هذه الآيات البيّنات ما يكفي للتمثيل على الدلالات المختلفة للفظة " آية " في كتاب الله عز وجل.
والذي يعنينا في هذا الحديث الرمضاني، هو التنبيه إلى قوله تعالى : (( هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان )) ، لأن المؤمنين في شهر الصيام يصاحبون القرآن الكريم تلاوة ، وقياما ، و تدبرا، وتبركا ، الشيء الذي يمكّنهم من الاستفادة مما فيه من هدى ، وما فيه من بيّنات الهدى بما من دلالة للفظة بيّنات كما جاء في كتب التفسير .
والمؤمنون في تدبر ما يتضمنه الهدى من مصالحهم عامة وخاصة ، وفي تدبر بيّنات الهدى من توحيد لله تعالى، ومن تصديق لنبوة رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن إيمان بالغيب ، يزداد إيمانهم، ويقوى بذلك التدبرالذي يعتمدون فيه على عقولهم، وهم ينطلقون من سفر الله تعالى المسطور إلى سفره المشهود ، لأنه جل وعلا إنما يقيم الدلائل على ذاته المقدسة، وعلى صدق نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال هذا الأخير وذلك بما يحيله السفر المسطورعلى السفرالمشهود الشاهد بالأدلة المحسوسة، والملموسة والمعقولة .
ولا شك أن حالة الإيمان خلال ممارسة عبادة الصيام تؤهل المؤمنين إلى هذا التدبر ، الذي قد ينشغلون عنه في فطرهم بموانع على رأسها الشهوتان الجامحتان والملحتان . وبعبادة الصيام حين تصح ، وتحقق الغاية المقصودة أو المرجوة منها، تقوى ملكة العقل المتدبر على جموح وإلحاح الشهوتين . وليس سيان من تشغله الشهوتان ، ومن ينصرف عنهما بالصوم فينطلق عقله من عقالهما نحو التدبر العميق .
ومما ذكره الله تعالى في وصف القرآن الكريم في الآية موضوع هذا المقال ، وصفه بالفرقان ، وقد جاءت هذه اللفظة بعد ذكر الهدى ، وذكر بينات الهدى ، ومعلوم أن بهما يتحقق الفرقان كما يعرّفه أهل العلم، بأنه يفرق بين الحق والباطل ، والناس لا يميزون بين الحق الذي لهم فيه مصالحهم العامة والخاصة إلا بالهدى ، ولا يتأكدون من ذلك إلا ببيّنات الهدى .
وما يجب التنبيه إليه في هذا الحديثالرمضاني، هو ألا تقصرهمم المؤمنين عن تدبر سفر الله المسطور من خلال ما يحيلهم عليه في السفر المشهود ، وألا تكون مصاحبتهم له مجرد نشدان أصوات القراء الشجية التي تسهوي الأسماع ، وتشغلهم بنغمها حين يصبح هدفا وغاية في حد ذاته عن التدبرالذي هو الغاية كما أمر بذلك الله عز وجل في قوله : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) . ولقد ذهب بعض أهل العلم أن القلوب لها أقفال متعددة ، لا يحصل تدبر كلام الله عز وجل إلا بالتخلص منها جميعها ، وقد تكون الرغبة في الأصوات التي تتغنى بالقرآن الكريم قفلا من تلك الأقفال يمنع التدبر في كثير من الحالات ، ولهذا يجب أن تكون الغاية الأولى هي التدبر ، فإن ساعدت القراءات الجيدة عليه دون أن تكون شاغلة عنه، فلا بأس بها ، وإلا فلا فائدة حينئذ ترجى منها . وعلى المؤمنين أن يقوموا بعد كل صلاة تراويح أو تلاوة لكتاب الله عز وجل في هذا الشهر الفضيل بتقويم ذواتهم عن طريق استعراض ما نتج عن تدبرهم له من ارتقاء روحي ، وذلك حرصا على مصالحهم العامة والخاصة ، وحرصا على تقوية إيمانه وترسيخه ،توحيدا لله تعالى ، وتصديقا لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وتصديقا راسخا لا تردد فيه لكل ما غيّبه الله تعالى من مغيبات، وعلى رأسها اليوم الآخر وما بعده من مصير .
اللهم إنا نسألك فك كل الأقفال عن قلوبنا ، ونسألك إلهامنا حسن التدبر في هذا الشهر الفضيل ، وفي كل شهور السنة حتى يصير التدبر دأبنا وديدننا إلى نلقاك على ذلك، وأنت راض عنا.
وسوم: العدد 1074