( ولتكّبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )
حديث الجمعة :
من فضل الله عز وجل ورحمته على عباده المؤمنين أنه لمّا تعبّدهم بعبادة الصيام، يسّرها لهم تيسيرا بتحديد وقت الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو وقت تطاق فيه ممارسة هذه العبادة ،بحيث لا يوجد فرق بين تناول وجباتهم اليومية في فطرهم، وبين تناولها في صيامهم إذ تعوض وجبات الليل وجبات النهار في رمضان . و لو أن الله تعالى فرض الصيام ليلا ، وهو وقت يسكنون فيه لما كان له من معنى، لأنه لا حاجة لهم إلى طعام مع سكونهم.
ولمّا كان من أهداف الصوم الإقبال على كتاب الله عز وجل ليلا في شهر رمضان تلاوة وتدبرا من أجل الاهتداء بما ضمّنه الله تعالى من توجيهات فيها صلاحهم في عاجلهم وآجلهم ، فإن الأنسب هو أن يكون صومهم نهارا ، وسهره جزءا من الليل أوله وآخره مع هذا الكتاب تلاوة، وتدبرا بعدما تكون النفوس قد سمت روحيا نهارا بتخلصها من الشهوات التي تحول دون هذا السمو الذي يؤهلها ليلا للتعامل مع الطبيعة الروحية لكلام الله عز وجل ، وهو ما يزيدها انصرافا عما يشغلها عنه .
ولا يقف رفق الله تعالى بعباده المؤمنين عند هذا الحد فقط ،بل راعى سبحانه ظروفهم سواء الصحية ، أو السفرية ، فجعل لهم رخصا دفعا لمشقة الصوم في مثل هذه الظروف إلى حين استقرار أحوالهم ، فيعوضون ما فاتهم من صيام في غيره من الشهور ،ويكون لهم نفس الأجر والثواب دون أن ينقص من أجورهم شيئا . ونظرا لكل هذا التخفيف الإلهي ، فإن الله تعالى امتنّ على الصائمين سواء من أتموا عبادتهم كاملة خلال شهر الصيام أو من استفادوا من نعمة الرخص مصداقا لقوله تعالى : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) ، وليس لأحد مع قوله سبحانه هذا أن يتحدث عن عسر أو يزعم ذلك ، لأنه سبحانه أعلم بالخلق، وأعلم بما يكون فيه عسر لهم .
ومعلوم أن كل امتنان يمتنه الله عز وجل على خلقه بسبب نعم يسبغها عليهم ، يستوجب منهم بالضرورة الشكر ، لهذا قال الله تعالى مباشرة بعد ذكر امتنان نعمة الصوم : (( ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون )) ، وتكبير الله تعالى هو تعظيمه، وإجلاله ،وتنزيهه ، ويكون بالقول وبالفعل في آن واحد إذ لا معنى لتكبير باللسان لا يكون منطلقه من قناعة تستقر بالجنان تكون لها ترجمته بالأفعال . ورب لسان يكبر الله تعالى ، وصاحبه يأتي أفعالا تنقض ما يلوكه اللسان . وتكبير الله تعالى الذي يكون باللسان مع ظهور هلال شهر شوال إلى غاية أداء صلاة العيد هو عبارة عن شكر على ما أنعم به سبحانه وتعالى من نعم تيسير أداء عبادة الصيام ، وما خصها به من عظيم الأجر والثواب حيث يعدل أجر قيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا أجر ألف شهر ، وهي مدة قد لا تستغرقها أعمار كثير من المؤمنين التي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها بين الستين والسبعين، لا تزيد عن ذلك إلا قليل .
ومن جود الله عز وجل على عباده المؤمنين أن جعل تكبيره عند نهاية جوائز الصيام، وعلى رأسها جائزة مغفرة ما تقدم من ذنوبهم صبيحة فطرهم عبارة عن شكر حيث قال : (( لعلكم تشكرون )) ، أي رجاء أن يكون تكبيركم شكرا منكم على تلك الجوائز.
ولمّا كانت عبادة الصيام والقيام عبارة عن صفقة بين الخالق سبحانه وتعالى ، وبين عباده المؤمنين ، فإن مما يصونها ألا يُخلّوا بها أو ينقضوا شكرها بالعودة إلى الذنوب والمعاصي من جديد، مباشرة بعد فطرهم كما يفعل على سبيل المثال لا الحصر معاقرو الخمور الذين يتجنبون شربها طيلة شهر رمضان ، فإذا كانت ليلة رؤية هلال شهر شوال، شوهدا وهم يترنحون سكارى ، وفي هذا نقض لشكر نعمة الصيام وجوائزه ، ومثل كفران هؤلاء السكارى لهذه النعمة، كفران غيرهم ممن يرتكبون مختلف المعاصي والآثام التي يغفرها الله تعالى مقابل صيام وقيام يشترط فيها الإيمان والاحتساب . ومن أعظم تلك المعاصي والآثام أن يستعان بنعم الله تعالى على ارتكباها ، وهذا منتهى كفرانها وجحودها والعياذ بالله .
ومن الشكر الواجب على الصائمين، أن يجعلوا ما كانوا عليه طيلة شهر الصيام دأبا وديدنا لهم خلال باقي أيام الحول ، لأن الصيام عند التأمل والتدبر عبارة عن دورة تكوينية سنوية ترفع المؤمنين من درك المعاصي والآثام إلى سمو الهداية والاستقامة، من أجل أن يصير ذلك لهم عادة ، لهذا لا تحصل الاستفادة من هذا التكوين السنوي إذا لم يُحصّل من يخضعون له فائدة . ولقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم تدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " ، فإذا كان التدرب على ترك قول الزور العمل به خلال شهر الصيام ، فوجب أن يكون دأبا وديدنا في باقي شهور الحول ، وبهذا يكون لتكبير الله تعالى وشكره ، علما بأن التكبير لفظا هو قول : " الله أكبر " ، وسلوكا هو استحضار دلالة هذا القول الذي يعني أنه لا كبير إلا الله عز وجل ، وهو ما يقتضي أن تكون أوامره ونواهيه فوق أوامر ونواهي غيره مهما كان هذا الغير إذ لا يُعظّم، ولا يُجلّ، ولا يُنزّه أحد معه سبحانه وتعالى .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هي تذكير المؤمنين بواجب تكبير ، وتقديس ، وتعظيم ، وإجلال الله تعالى وشكره على نعمة الصيام والقيام ، وما جعل لها سبحانه وتعالى من عظيم الأجر والثواب . وأفضل الشكر الاستمرار على ما كان عليه حالهم في أيام هذا الشهر المعدودات . ولا يجب أن يغيب عن الأذهان أنه لو شاء الله تعالى لفرض علينا عبادة الصيام خلال شهور الحول كلها ، ولكنه جل في علاه لم يفعل ،لأنه أراد بنا اليسر ، ولم يرد بنا العسر ، وأنه ما جعل علينا في الدين من حرج . ولا يجب أن يغيب أيضا عن الأذهان أن طبيعة ابتلائنا في هذه الحياة الدنيا، اقتضت أن يترك لنا ربنا سبحانه وتعالى الحرية في توخي الاستقامة على صراطه المستقيم دون إكراهنا على ذلك كي نبرهن على صدق نوايانا بالاستقامة له عز وجل قولا وفعلا ، وإلا فلا معنى للابتلاء دون حرية .
اللهم إنا نسألك الثبات على صراطك المستقيم ، ونسألك المحافظة على توبة نصوح ، ونسألك دوام الاستقامة لك ما بقي من فسحة في العمر ، ونسألك أن نلقاك ونحن على حسن تقواك ، ونسألك مردا غير مخز ، ونسألك نعيما غير منقطع .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1075