( الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين )
حديث رمضان : الحلقة الخامسة :
من المعلوم أن فاتحة الكتاب ، وهي أمه ، والسبع المثاني ، قد خصها الله تعالى بالتعظيم، إذ جعل الصلوات لا تقبل إلا بتلاوتها جهرا وسرا . وأول ما يفتح المصحف الشريف تطالعنا هذه السورة العظيمة، التي لا يوجد مسلم في المعمور ماضيا وحاضرا ومستقبلا لا يحفظها عن ظهر قلب ، وذلك من مشيئة الله تعالى ورحمته . وهي أو ما يلقن لصبية المسلمين ، فتكون أول محفوظهم قبل كل محفوظ .
وحين نتأمل هذه السورة ، نجدها تفتتح بحمد الله تعالى ، وبذكر بعض أسمائه الحسنى، وصفاته المثلى ، وتتضمن إشارة إلى أنه هو المخصوص بالعبادة ، وهو وحده المستعان به ، وهو الهادي والمنعم على عباده إلى صراطه المستقيم ، وهو الذي يتعوذ به من سبيل المغضوب عليهم والضّالين .
وفي هذا الترتيب ، تلقين للمؤمنين كيف يجب أن يكون التوجه إلى الخالق سبحانه وتعالى بالدعاء حيث يُبدأ بحمده ، والثناء عليه بأسمائه وصفاته ، ويضاف إلى هذا الصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم توسلا به إليه وقد أكرمه بالشفاعة الكبرى ثم التوجه إليه بالطلب أو السؤال أو التعوذ به .
ومن المعلوم أن الحمد في القرآن الكريم يتقدم دائما كل امتنان يمتن به الله عز وجل على عباده حين تكون بنعمه عظيمة . وفي الفاتحة سبق الحمد نعمة الربوبية التي تختص بأفعال الله تعالى ، وهي تفيد سلطانه، وقوته، وقدرته على الخلق والتدبير، وتصريف في كل أمور الكون . وحتى لا تذهب الأذهان إلى صفات القوة والقدرة فقط عند ذكر ربوبيته، جاءت مباشرة بعدها صفتان تدلان على واسع رحمته بصيغتين تفيدان لا محدوديتها ، وذلك حتى يستأنس الخلق بأن ربهم الأعلى تسع رحمته كل شيء. ومباشرة بعد ذلك ،ورد ذكر صفة ملك يوم الدين ، وهو يوم القيامة الذي يقتضي ذكره أن يعلم الخلق بأنهم مجمعون له لا ريب في ذلك كي يحاسبوا على ما عملوا .وهكذا يجمع الله تعالى في الفاتحة بين قوته ورحمته. وبعد ذلك علّم المولى جل وعلا الخلق كيف يجب أن يتوجهوا إليه بالدعاء ، وما الذين يجب أن يطلب منه ، وما الذي يجب أن يتعوذ به منه، في قوله : (( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين )) .
وعند التأمل في هذا الدعاء، نجده عبارة عن ثنائيتين الأولى : ثنائية المنعم عليهم من الخلق من جهة، ومن جهة أخرى المغضوب عليهم والضّالين من الخلق ، والثانية : ثنائية الصراط مستقيم المذكور ، وهو خاص بالمنعم عليهم من جهة ، و من جهة أخرى صراط معوج غير مذكور، والقرينة عليه ،هو ذكر الشريحتين اللتين تنهجانه ، وهم المغضوب عليهم والضّالون.
قد يدرك كل من يتلو فاتحة الكتاب المقصود بالصراطين المستقيم والمعوج ، والمقصود بالمنعم عليهم، والمغضوب عليهم والضّالين، لكن قد يغيب عن كثير من المؤمنين الرجوع إلى سور أخرى من هذا الكتاب قد وردت فيها إما صفات أو أفعال كل شريحة من الشريحتين ، وهو ما نود الوقوف عنده حتى يستحضر قراء فاتحة الكتاب سواء في صلواتهم أو في غيرها ما يقصدونه في دعائه لإدراك درجة المنعم عليهم ، وتحاشي سبيل المغضوب عليهم والضّالين
أما المنعم عليهم ، فهم كما ذكرهم الله تعالى في قوله : (( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )) ، وكفى بهذه الآية الكريمة من سورة النساء دليلا على المقصود بما أمرنا الله تعالى أن نسأله في فاتحة كتابه الكريم . وعلى كل تال للفاتحة أن يستحضر هؤلاء المنعم عليهم نبيّون ، وصدّيقون ، وشهداء ، وصالحين ، ويعي جيدا أنه يرغب في أن يكون معهم ، وفي رفقتهم يوم القيامة. وإذا ما كانت درجة النبوة ، والصدّيقية غير متأتية للجميع ،لأن الله تعالى قد اصطفى من اصطفى من خلق لهاتين الدرجتين ، وختم النبوات بنبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن المعية مع أصحاب هذه الدرجة ممكنة . وأما درجة الشهادة والصلاح ، فهي ممكنة للجميع إلى قيام الساعة ، والمعية مع أصحابها ممكنة أيضا. ولقد اشترط الله تعالى كوسيلة لبلوغ معية هؤلاء المنعم عليهم طاعته جل في علاه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وأما المغضوب عليهم ، فهم كما ذكرهم الله تعالى في قوله : (( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين )) ، وكفى بهذه الآية من سورة البقرة دليلا على المقصود بما أمرنا الله تعالى أن تعوذ به منه في فاتحة الكتاب . وعلى كل تال للفاتحة أن يستحضر المتعوذ بالله تعالى منهم ومن أحوالهم، وهم الكافرون بما أنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك ما بوأهم غضبا على غضب من الله عز وجل ، وأورثهم العذاب المهين في الآخرة .
وهناك آيات أخرى لا بأس من ذكرها ،لأنه حينما يذكر المفسرون أن اليهود من المغضوب عليهم ، يجادلهم البعض في ذلك مع أن هذه الآيات تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن ما ذهب إليه هؤلاء المفسرون هو عين الصواب ، كما هو الشأن في قوله تعالى : (( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين )) ، فإذا قيل إن هؤلاء هم عبدة العجل وقد بادوا ، فما بال غير هؤلاء من اليهود؟ قيل لهم إن الله تعالى قد قال عنهم : (( ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )) ، كما قال أيضا : (( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة من عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل )) .
ويدخل تحت صنف المغضوب عليهم أيضا المنافقون والمشركون لقوله تعالى : (( ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظّانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا )). ويدخل تحت الصنف أيضا من قال فيهم الله تعالى : (( والذين يحاجّون في الله من بعد ما استجيب له حجّتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد)) ، كما يدخل تحته من يقتلون النفس المؤمنة عمدا مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما )) .
هؤلاء المغضوب عليهم وغيرهم مما ورد ذكرهم في كتاب الله عز وجل يجب على من يتلو فاتحة الكتاب أن يستحضرهم ، وهو يتعوذ بالله من أحوالهم، وقد نكبوا عن صراطه المستقيم .
وأما الضالين ، فهم كما ذكرهم الله تعالى في قوله : (( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيد )) ، وفي قوله أيضا : (( ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل )) ، وقوله كذلك : (( ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالا بعيدا )) ، وقوله أيضا : (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا )) . وعندما نتأمل هذه الآيات الكريمة ، نجد شريحة الضّالين تتضمن المشركين أيما كان نوع الشرك ، وتشمل المرتدين بعد إيمانهم ، وتشمل الكافرين ، كما تشمل من يعصون الله ورسوله .
وعلى من يتلو فاتحة الكتاب أن يستحضر كل من يدخلون تحت هذه الشريحة ، وغيرهم ممن ذكروا في آيات أخر ، علما بأن شريحة المغضوب عليهم تدخل هي الأخرى تحت هذه الشريحة بسبب شركها وكفرها ، وهي تجمع بين غضب الله تعالى ، وبين الضلال .
والملاحظ أن كل ما أنزل الله تعالى من قرآن في هاتين الشريحتين قد أشار إليه في فاتحة الكتاب دون ذكر أحوالهما ، وهذا ما يدعو كل من يتلوها أن يتساءل مع نفسه عمن هم المغضوب عليهم ؟ ومن هم الضالون ؟ حتى يتنكب سبيلهم المنحرف عن صراط الله المستقيم ، وبهذا يكون قد أحسن تدبر سورة الفاتحة كما أمر الله تعالى .
اللهم إنا نسألك صراطك المستقيم ، صراط المنعم عليهم ، ونعوذ بك من سبيل المغضوب عليهم والضالين . والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1075