( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها )
حديث رمضان : الحلقة الرابعة
من المعلوم أن الله تعالى قد ربط بين عبادة الصوم نهارا ، وبين عبادة القيام بالقرآن الكريم ليلا ، لأن العبادة الأولى التي هي إمساك عن الشهوات تخلّص الإنسان المؤمن من سطوتها التي تشغله عما هو أهم منها ، ذلك أن الشهوات خصوصا الملحة منها ، والمرتبطة بالبطن والفرج ،تجعله مرتبطا بطبيعته الطينية المظلمة التي تحول بينه وبين طبيعته الروحية النورانية . ولما كان كلام الله تعالى روحا ، فقد وجب التعامل معه باستعداد روحي مفارق تماما للطبيعة الطينية.
ولقد اشترط الله تعالى في التعامل مع كلامه الذي ضمنه ما يُصلح أحوال الناس في عاجلهم ، و ما يُفضي بهم إلى أسعد مآل في آجلهم، أن يدرك كنه ما فيه بتدبره مصداقا لقوله تعالى : (( أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة محمد ، والتي سبب نزولها تقريع المنافقين الذين لا يحصّلون شيئا مما ضمنه الله تعالى في محكم تنزيله ، قد ورد فيها التدبر ، وهو النظر في أدبار الأمور، أي ما خفي منها ، واكتناهها ، وهذا يعني أن في كلام الله تعالى ما يجب أن يُكتنه، ويُتعمق في فهمه ضرورة . ولقد ورد في هذه الآية الكريمة ما يمنع أو يحول دون تدبر كلام الله عز وجل ، وهو عبارة عن أقفال ، التي هي على وجه الحقيقة ما يستعمل لغلق كل ما يغلق من أبواب أو صناديق أو غيرها منعا لفتحها أواكتناه ما فيها أو ما وراءها من مستور ، إلا أن استعمال الأقفال في هذه الآية، هو استعمال مجازي أريد به كل ما يمنع من تدبر كلام الله عز وجل . ولقد وردت لفظة أقفال ، وهي جمع قفل للدلالة على كثرة ما يمنع هذا التدبر من عوارض وموانع مختلفة . ولئن كان القفل الواحد يكفي لإغلاق ما يغلق ، فإن استعملت أقفال عدة لإغلاقه، كان ذلك منعا لفتحه ، وكذلك شأن القلوب التي لا يتدبر أصحابها كلام الله عز وجل . وذكر القلوب في القرآن إشارة إلى ما به تعقل كل الأمور ، وقد قال الله تعالى : (( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة الحج ، وردت كلمة يعقلون ، ومعلوم أن فعل عقل له لغة عدة معان، منها الربط، و الضم، والقبض ،والإدراك ،والتمييز، والفهم ... فضلا عن معان مجازية أخرى ، ودلالته في الآية الكريمة، تتعلق بالتمييز، والفهم، والإدراك . ومعلوم أن مصدر هذا الفعل لم يرد في كلام الله تعالى، بل الوارد فيه هو الفعل منه (( يعقلون بها )) والضمير يعود على القلوب ، فهذا يعني أنها أداة تحصيل التمييز، والفهم، والإدراك ، وقد قال بعضهم أن القلب بضخه الدم إلى كل أعضاء الجسم، يكون بذلك المحرك لها ، ومن بين تلك الأعضاء الدماغ الذي تجتمع عنده المعلومات التي تزوده بها الحواس ، فيحصل لديه الإدراك، والفهم، والتمييز ، ولهذا نسب التعقل إلى القلب باعتباره المزود للدماغ والحواس بالمادة الحيوية، كما قال بذلك بعض أهل العلم . ومما يقوي هذا الفهم أن الآية الكريمة ،ورد فيها ذكر الحواس آذانا ، وأبصارا، وهي ذات الصلة بالدماغ الذي ينظم وينسق ما تزوده به من المدركات .
والمهم في حديثنا هذا أن ما يمنع التدبر في كلام الله عز وجل ،هي موانع وصفها الله تعالى بالأقفال التي تعطل الحواس ، ومن ثم تعطل الدماغ المنسق لمنقولاتها (( لهم آذان لا يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور )) ، إنهما الصمم والعمى المعنويين ، وهما قفلان من الأقفال التي تكون على القلوب ، فضلا عن أقفال أخرى عددها بعض أهل العلم ،منها الانصراف إلى ما في الدنيا من مشاغل، وملذات وشهوات ، ومن زينة المال والبنين ...
ومعلوم أن تدبر كلام الله عز وجل، هو غاية كل مؤمن ، لكن الوسائل إليه تختلف من إنسان إلى آخر ، وتدخل في ذلك عوامل منها درجة العلم بما له صلة بكتاب الله من علوم بدءا بعلوم اللغة التي نزل بها ، ومرورا وانتهاء بكل العلوم المتصلة به كما صنفها المشتغلون به قديما وحديثا . وعلى قدر تحصيل هذه العلوم، يكون التدبر على الوجه المطلوب .
ويخطىء من يلتمس التدبر أثناء صلاة التراويح في أداء المقرئين الذين يتغنون بكلام الله عز وجل ، ولكن همه ينصرف إلى الأصوات في حد ذاتها ، وتشغله عن التدبر الذي هو عملية ذهنية تنصرف إلى الفهم والإدراك ، وليس عملية تذوق للأصوات . ومما يشغل الناس عن التدبر، هو مبالغة بعض القراء في قراءاتهم ، واعتماد ما يسمى بالمقامات (بيّنات ، ورست ، نهاوند ، وسيكا ، وصبا ، وحُجاز ) ، وكلها تغازل العواطف ، ويزعم البعض أنها تحقق الخشوع ،أو تساعد عليه، علما بأن الخشوع إنما يدرك بحسن التدبر ، وليس بلذة السماع المتأتية من أداء بالمقامات . ولقد وضع أهل العلم بكتاب الله عز وجل قواعد ، وضوابط لتلاوته هي العمدة ، وما سوى ذلك محض مبالغة شاغلة عن تدبره .
ومن التدبر أن يتنبه تال القرآن الكريم وسامعه إلى معالم ما أراد الله تعالى التنبيه إليه من قبيل توحيده إلها وربا ، ومن قبيل تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم ، ومن قبيل أوامره ونواهيه .. ومن قبيل الإشارات إلى ما غيبه في الآخرة ودل عليه ، ومن قبيل النظر في ملكوته ومخلوقاته ، ومن قبيل الاعتبار بما قصه من أخبار السابقين ... ومن قبيل العلاقة بين الخالق ومخلوقاته ، ومن قبيل اختلاف المخلوقات ، والعلاقات بينها ... إلى غير ذلك من تلك المعالم الكبرى .
ومما يجب على المتدبر أن تستوقفه أسماء الله تعالى الحسنى ، وصفاته المثلى التي ترد تذييلا، وهي ثتائية في الغالب ، وتتوزع بين متمحضة للرحمة ، ومتمحضة للعذاب ، أومتمحضة لدلالات أخرى ، ويرجع في فهمها إلى أهل العلم لمعرفتها، ثم ربطها بعد ذلك بالسياق الذي ترد فيه ، وبذلك يتأتى فهم الغرض من ورودها فيه . ويجب عليه أيضا أن تستوقفه الصفات التي وصف بها الله تعالى أنبياءه ورسله صلواتهم وسلامه عليهم أجمعين ، خصوصا صفات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لمعرفة قدره ومقداره العظيم والتأسي والاقتداء به. ويجب عليه أن تستوقفه أوصاف المؤمنين من أجل التحلي بها ، وأوصاف الكفار، والمشركين ، والمنافقين لتجنبها ، والملاحظ عند التدبر في هذه الأصناف البشرية هيمنة ثنائية التقابل بين الفئة المهتدية ، والمستقيمة على صراط الله المستقيم ، والفئة الصالة الناكبة عنه ، ولا تذكر فئة إلا ويليها في الغالب الأعم ذكر الفئة المقابلة لها ، وبهذا يتحقق هدف الوعد والوعيد . ومما يجب أن يستوقفه أيضا القصص القرآني ، وصيغ سرده ، وأساليبه المختلفة لحكم أرادها الله عز وجل ، وذلك لما فيه من عبر وعظات . ويجب عليه أن تستوقفه أيضا الأمثال التي ضربها الله تعالى ، ففيها أيضا عبر وعظات ، وهي من حكمه البالغة .ويجب عليه أن يستوقفه ما دعا إليه الله تعالى من تأمل في ملكوته ، وما أحال عليه من آياته في كل الآفاق ليزداد يقينه، ويترسخ إيمانه.
ويجب عليه ألا ينشغل بما جعله الله سرا من أسراره المغيبة عن الخلق ، وقد استأثر سبحانه بعلمها كالحروف المقطعة التي تفتتح بها السور، وغيرها مما لا طائل من وراء البحث عن كنهه كالروح على سبيل المثال، وغير ذلك من المعجزات التي لا قبل للعقول بإدراكها كما تدرك الأمور في عالم الشهادة .
و خلاصة القول أنه حري بمن يستعرض كتاب الله عز وجل في ليالي رمضان ، أوفي غيرها من أيام الله عز وجل ولياليه أن يستوقفه من كل جزء سمعه أو قرأه ما يحتاج إلى فهمه ، ويكون دليله في ذلك ما جاء في كتب التفسير تجنبا لسوء الفهم، أوالقول في كلام الله تعالى بهوى، ودون دليل يوثق به ، مع استحضار قاعدة العبرة بعموم لفظه ، لا بخصوص أسباب نزوله حتى لا تشغل الأسباب عما يريده الله تعالى من سلوك خلقه إلى قيام الساعة ، لأنه رسالته الخاتمة إليهم ، وقد ضمنها من أوامره، ونواهيه، وأحكامه ما ينسحب على كل العصور والأمصار دون استثناء .
وفي الأخير نؤكد على أن التدبر إنما يكون بعون من الله تعالى وبفتح منه ، وهو نعمة من أجل النعم من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا .
اللهم إنا نسألك حسن التدبر ، وحسن التدبير .
وسوم: العدد 1075