( قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إليّ )
حديث الجمعة :
جريا على عادة الأمم البائدة التي قص علينا القرآن الكريم أخبارها في تكذيب المرسلين ، كذب كفار قريش بدورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد أشار الذكر الحكيم في الكثير من آياته إلى تكذيبهم واستهزائهم بما أنزل عليهم ، ونذكر من تلك الآيات قول الله عز وجل في سورة يونس الآية 15 :
(( وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )).
ولقد ورد في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة هو أن نفرا من كفار قريش ، وقد ذكر منهم خمسة هم : عبد الله بن أمية ، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص ، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس ، والعاص بن عامر ، طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدل ما يوحى إليه أو يأت بغيره ، علما بأنهم كلهم كانوا يكفروا بما أنزل عليه ، ويسخر منه ، وكان بعضهم يتهمه بالسحر والكهنوت ، أو ينسب إليه الشاعرية ... إلى غير ذلك من الفرى الملفقة التي كانوا يفترونها عليه بهتانا وزورا . ولقد بدأ ت هذه الآية الكريمة بوصفهم بالمكذبين بالبعث وبالرجوع إلى الله تعالى ليحاسبوا على كفرهم وضلالهم ، وهو كفر بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع أنهم كانوا على يقين تام من أنه يوحى، ولكنهم كانوا يكابرون خصوصا وأن الوحي كان ينزل فيهم ، وفي وصف كفرهم ، وضلالهم ، وكان يفضح ما كانوا يخفونه من أحاديث كانت تدور بينهم دون أن يعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شق عليهم ذلك ، فطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بغير ما يوحى إليه أو يبدّله كي يوافق أهواءهم وضلالهم . ولقد ذكر بعض المفسرين أنهم ربما طلبوا منه ذلك بنية وقصد الاستهزاء والسخرية ، خصوصا وأنهم كانوا على يقين تام من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان ينبغي له أن يغير أو يبدّل شيئا مما كان الله تعالى يوحيه إليه ، و هذا يعني أن طلبهم كانوا يقصدون من ورائه السخرية منه ، والتعريض به ، وهو ما أخبر به الله تعالى عنهم في قوله بقوله جل شأنه : (( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا )) . ولما كان هذا بهتانهم وزورهم، فقد طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبدّل الوحي الذين اعتبروه مجرد أساطير كانت تملى عليه، وكان يكتتبها مثل الأساطير التي كانت متداولة بينهم ويومئذ كأحاديث "أسفنديار"، وهو بطل أسطوري قد ذكر في ملحمة الشاهنامه التي ألفها الفردوسي . وكان بعضهم يحدث بها لشغل الناس عن سماع كلام الله عز وجل ، وصرفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولقد سجل الوحي ما كانوا يقولونه للناس لصرفهم عما أنزل الله في قوله عز من قائل : (( وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون )) .
ولقد أوحى الله تعالى إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الجواب عما طلبه منه كفار قريش من إتيان بغير الذي أوحي إليه من كلام الله عز وجل أو تبديله ، وجاء جوابه مسفها لمطلبهم، وهو أنه ما ينبغي له أن يفعل ذلك من تلقاء نفسه ، وأنه إنما يتبع ما يوحي به إليه ربه دون تبديل أو تغيير أو زيادة أو نقصان ،لأنه نبي مرسل، وهو منزه عن ذلك ، ومعصوم من معصية الله تعالى . وفي قوله عليه الصلاة والسلام للكافرين بعد رفضه طلبهم : (( إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )) وعيد لهم ،لأنهم عصاة لا يرجون لقاء الله كما جاء وصفهم في أول الآية الكريمة ، وأنهم سيواجهون أشد العذاب بعد رحيلهم عن الدنيا ،ولقاء ما لم يكونوا يصدقونه ، ويؤمنون به . ولقد خص الله تعالى منهم الوليد بن المغيرة، وكان أشدهم تكذيبا بأعظم وأشد العذاب كما جاء في قوله جل وعلا : (( إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكّر وقدّر فقتل كيف قدّر ثم قتل كيف قدّر ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر )) .
ولمّا كانت العبرة في كلام الله عز وجل بعموم لفظه ، لا بخصوص سببه ، فإن تكرار مقولة النفر المكذب بالوحي والراغب في الإتيان بغيره أو تبديله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سيتكرر مثله في كل عصر ، وفي كل مصر إلى قيام الساعة ، وسيكون الرد عليه ، هو ما أوحي به الله تعالى إلى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام : (( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم )) ، وهذا القول يلزم كل مؤمن ، وكل مؤمنة إذا ما واجها أو جادلا أو حاورا أو ناظرا من يرومون النيل من كلام الله عز وجل، سواء كان ذلك بطلبهم تغيير بعض أحكام آياته أو تبديلها أو تعطيل العمل بها أو تأويلها على غير الوجه الذي أراده الله تعالى أو وصفها بأنها صارت متجاوزة، قد عفا عنها الزمن ، ومتخلفة عن مسايرة ومواكبة ما بجد فيه من بدع وضلالات مما تمليه علبهم أهواءهم ... إلى غير ذلك مما يعد في نهاية الأمر من قبيل التغيير أو التبديل المنهي عنه شرعا.
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تنبيه المؤمنين إلى ما انبرت إليه مؤخرا شريحة ممن يسمون أنفسهم حداثيين أوعلمانيين أو لادينيين من مطالبة بإحداث تغيير في بعض نصوص القرآن الكريم أو تعطيل العمل بها ، وذلك بمناسبة اشتغال اللجنة المكلفة بتعديل أو إصلاح مدونة الأسرة التي رفع أمرها إلى إمارة المؤمنين للبث فيها ، علما بأن أمير المؤمنين قد سبق هذه اللجنة وغيرها بتصريح واضح لا غبار عليه هو نفس ما أوحى به الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم حين طلب منه كفار قريش الإتيان بغير ما كلف بتبليغه إلى الناس أو تبديله ، حيث قال جلالته : " لن أحل حراما ، ولن أحرم حلالا " ، وهو قول يلزم اللجنة المكلفة بإصلاح المدونة أو غيرها أن تضعه في اعتبارها ، ونصب عينها بموجب ما يطوق أعناق الجميع من بيعة لا يمكن المساس بقدسيتها ، تماما كما لا يجب المساس بقدسية الوحي المنزل من عند الله تعالى قرآنا وسنة . وإن ما رام المساس بالوحي تعطيلا أو تغييرا أو تبديلا ، سيكون بمثابة من مس بالبيعة وخلعها من عنقه ، وهي مما نص الوحي على الوفاء بها ، وجعلها أمانة من أعظم الأمانات ، وحذر من تضييعها رسول الله صلى الله عليه بقوله : " من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية " .
ومما تطالب به الفئة الحداثية جهارا تعطيل العمل ببعض أحكام آيات الذكر الحكيم أو تغييرها . ونذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر المطالبة بتعطيل تعديد الزيجات ، وكذا المطالبة بتغيير بعض أنصبة الميراث أو تعطيل العمل ببعضها . ومعلوم ان كل تعطيل أو تغيير أو تبديل لما جاء في كلام الله تعالى من أحكام وردت في آيات محكمات إذا ما أقر تبعا لأهواء الفئة الحداثية ، فإنه سيفتح الباب مشرعا على مصراعيه للمطالبة بالمزيد من التعطيل والتغيير والتبديل كما تنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء فيه : " لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، فكلما انتقضت عروة ، تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضا الحكم ، وآخرهن الصلاة " ، ونقض العرى في هذا الحديث الشريف، إنما هو تغيير وتبديل وتعطيل ما شرع الله عز وجل . وأول ما يريد أهل الأهواء نقضه من العرى هو الحكم أي القضاء بما حكم وقضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم . وواضح من هذا الحديث أن من ينقض العروة الأولى وهي الحكم أو القضاء ، يتجاسر لا محالة على نقض غيرها تباعا حتى ينتهي به الأمر في نهاية المطاف إلى نقض عروة الصلاة التي هي صلة يومية بين الخالق سبحانه وتعالى وعباده المؤمنين والتي يفضي تعطيلها إلى الكفر والعياذ بالله . ومعلوم أن بعض من يطالبون بتعطيل أو تغيير ما شرعه الله تعالى، يجادلون من ينكر عليهم ذلك بأن بعض ما شرعه قد صار في حكم المعطل ، ويذكرون كأدلة على ذلك بعض الحدود كحد الزنا، وحد السرقة، وحد القذف، وحد السكر ، وكلها تدخل تحت عروة الحكم كما جاء في الحديث الشريف ، ويزعمون أن الزمن عفا عنها ، ولم تعد صالحة لزماننا .
وأول من سيسأل أمام الله تعالى عن التذكير بما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم للرد على المطالبين بتغيير أو تبديل أو تعطيل شيء من شرعه هم العلماء ثم يليهم الخطباء الذين يخطبون الناس فوق منابر الجمعة ، ثم الدعاة الذين يزاولون الدعوة إلى الله عز وجل من منابر إعلامية أو غيرها ، فمن قصر من هؤلاء في القيام بما يلزمه ، ويجب عليه شرعا ، كان في حكم من يلقى الله تعالى يوم القيامة ولا حجة له ، ولينظر أية ميتة سيموت عليها ، وهو مقصر في أداء الأمانة التي استأمنه الله تعالى عليها ، وهو يخشى في ذلك الناس ، ولا يخشى الله تعالى ؟
اللهم إني قد بلغت فاشهد ، اللهم إنا نعوذ بك أن نجعل خشية غيرك قبل خشيتك أو فوق خشيتك ، وتعوذ بك من الفتنة في ديننا ، ونسألك الثبات عليه حتى نلقاك على ذلك لا مبدلين ولا مغيرين ، ولا فاتنين ، ولا مفتونين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1076