( فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم )
حديث الجمعة :
من المعلوم أنه من تكريم الله تعالى لبني آدم أن شملهم برحمته التي وسعت كل شيء . ومن رحمته بهم ، أنه خلقهم على هيئة خاصة تفضيلا لهم على كثير ممن خلق . وأهم في تلك الهيئة إيداع الملكة العاقلة فيهم ، والتي بها يرتقون على من سواهم من المخلوقات ، وبها يميزون بين النافع والضار ، و بين الخير والشر ، وبين الهداية والضلال في دنياهم ، فيسعدون فيها سعادة تنتهي بزوالها المكتوب عليها ، وينتقلون منها إلى سعادة أبدية في أخراهم . وإلى جانب الملكة العاقلة المودعة فيهم رحمة من ربهم جل وعلا ، تعهدهم سبحانه وتعالى بالتوجيه الذي لم ينقطع أبدا عبر تاريخ البشرية إلى عهد آخر رسالة ،حيث أرسل فيهم رسلا ممن اصطفاهم من خلقه يبلغونهم رسالاته التوجيهية . ولقد ظلت رسله تتوالى تترا حتى ختموا بأشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بُعث للعالمين جميعا إلى يوم الدين خلافا لمن سبقوه من المرسلين الذين بعثوا في أقوامهم فقط عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين .
ولقد جعل الله تعالى الرسالة الخاتمة متضمنة لكل أسباب سعادة البشرية في الحياة الدنيا إلى قيام الساعة . ويكفي أن يتمسك بها البشر لتحصل لهم تلك السعادة ، لهذا حث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بما أوحى به إليه ، ومن خلاله حث كل المؤمنين من عباده على ذلك، فقال عز من قائل في محكم تنزيله: ((فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم )) ، ففي هذه الآية الكريم من سورة الزخرف ، وهي الآية الثالثة والأربعون ، ومباشرة بعد ذكر حسن مآل المتقين ، وذكر سوء مآل الضالين في الآخرة ، يأتي الأمر الإلهي لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بالاستمساك بما أوحي إليه من هدي ، وقد جاء هذا الأمر بصيغة مؤكدة ، وهو مسك بقوة وبشدة . ولا يكون مثل هذا الأمر بهذه الصيغة المؤكدة إلا للتنبيه على أنه الوسيلة المثلى للنجاة من خطر محدق. ولقد وردت هذه الصيغة أيضا في الآية السادسة والخمسين بعد المئتين من سورة البقرة في قوله تعالى : (( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها )) ، وذكرت العروة في هذه الآية ، وهي عبارة عن مقبض يُمسك أو يُتشيث به ، ووصفت بالوثقى التي لا انفصام لها ، وهو ما يدل على قوتها وإحكامها واستعصائها على الانحلال والتصدع . واقتران الاستمساك بالعروة الوثقى يدل على أن المسك بقوة وشدة لا يكون إلا مع الاطمئنان إلى قوة الشيء المُتمسَّك به. ولقد وقف بعض المفسرين عند بيان هذا التعبير القرآني ، إذ يتعلق الأمر بتشبيه معقول بمحسوس ، وهذا أدعى إلى استيعابه إذ تأنس النفس عادة بالمحسوس الذي يسهل إدراكها للمعقول الذي لا يدرك لأول وهلة ، ذلك أن من يدرك حسا وثوق العروة التي لا انفصام لها ، يسهل عليه أن يعي بيسر المعقول الذي هو وثوق الإيمان بالله تعالى .
وأمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بالذي أوحي إليه، يدل على قوة ومتانة هذا الوحي الذي يحصل به الاطمئنان الذي لا خوف معه من ضياع أو هلاك أو خسارة أو سوء عاقبة أومآل . ويأتي مباشرة بعد أمر الله تعالى بالاستمساك بالوحي توكيدُ ثبات رسوله صلى الله عليه وسلم على صراطه المستقيم ، وهو ثبات لا يتأتى إلا بالاستمساك بوحيه لما فيه من هدي . ولم يأمر الله تعالى رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بالاستمساك بالوحي لأنه لم يكن مستمسكا به، بل أمره بذلك ليؤكد على ثباته على صراطه المستقيم ، وفي ذلك ثناء عليه علما بأن هذا الصراط هو النهج الوحيد لبلوغ أغلى الغايات، كما قال سبحانه وتعالى في الآية الثالثة والخمسين من سورة الأنعام : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصّاكم به لعلكم تتقون )) . ومعلوم أن الصراط المستقيم ، هو السبيل المتسعة، العريضة، الواضحة ، الوضيئة ،السوية ، التي لا ميل، ولا جور، ولا اعوجاج فيها، كما جاء في قوله تعالى : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني )) ، وسبيل بهذا الوصف تكون حتما مفضية إلى غاية موثوق بها ، بينما السبل المتفرقة عنها تكون معيبة بالانحراف والجور ، ولا غاية لها، بل هي مُضلّة ومفضية إلى تهلكة وضياع .
وبعد أمر الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بالوحي ، وتأكيد ثباته عليه ، يعقب بقوله : (( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون )) ، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن لكلمة "ذكر" هنا دلالتان : الأولى تعني أن في الوحي تذكير لك ولقومك بما يجب عليكم ، والثانية تعني أن في هذا الوحي تشريف لك ولقومك ، وقد تصح الدلالتان معا تذكيرا وتشريفا . ويأتي ذ كر بعد ذلك السؤال (( وسوف تسألون )) أي ستسألون عن أمانة اتباع هدي الوحي ، وأمانة تبليغه يوم القيامة ، كما ينص على ذلك قول الله تعالى : (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا )) ، وقوله أيضا : (( وكذاك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا )) ، ومعلوم أن المرسلين الشهود يُسأَلون ، كما يُسأَل الذين أرسلوا إليهم مصدقا لقوله تعالى : (( فلنسألنّ الذين أُرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين )).وسؤال الجميع سيكون عن الاستمساك بالوحي في كل الأحوال والظروف .
مناسبة حديث هذه الجمعة دعا إليه الظرف الذي نمر به اليوم ، وقد احتدم الجدال بين دعاة إلى الاستمساك بالوحي ، ودعاة إلى التخلي عنه فيما يتعلق بموضوع مدونة الأسرة التي يراد بها مراجعة بعض أحوالنا الشخصية نكاحا ،وفصالا ، وتوارثا ... ويبدو أن الدعاة إلى التخلي عن الاستمساك بالوحي، إنما أرادوا اتباع سبل متفرقة عن سبيل أو صراط الله المستقيم ، وهو ما شدد النهي عنه سبحانه وتعالى ، وهم في ذلك يتذرعون باتباع سبل أمم ليست على ديننا ، بذرائع واهية لا يستسيغها عقل ، ولا تستقيم لها حجة حيث يدّعون أن الوحي أو بعضه قد عفا عنه زمامنا ، وهم لا يلقون بالا إلى أنهم بذلك إنما ينكرون عالمية رسالة الإسلام التي تغطي ما بين زمن بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة . ومعلوم أن في هذا الإنكار مغامرة خطيرة ، ومجازفة وخيمة العواقب خصوصا وأن كل الخلق ما بين البعثة النبوية ، وقيام الساعة سيسأل بين يدي الله عز وجل عن أمر واحد هو الاستمساك بالوحي ، فمن استمسك به لقي ربه بحجة ، ولم لم يستمسك به لقيه ولا حجة معه . والمستمسكون بالوحي يخوضون صراطا مستقيما مفضيا إلى نعيم مقيم في الجنة خالدين فيها أبدا ، وغير المستمسكين به إنما يخوضون سبلا متفرقة عنه تفضي بهم إلى جحيم مقيم في النار خالدين فيها أبدا.
ويجدر بكل مؤمن ومؤمنة أن يستحضروا جيدا في هذا الظرف بالذات أمر ربهم بالاستمساك بما أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وألا يتركوا هذا الاستمساك طرفة عين أو أقل من ذلك ، و ألا يميلوا مع أهواء من يعرضون عنه استعلاء ومكابرة وإنكارا ، وألا يرضوا باستمساكهم ببدائل أخرى تزين لهم بأنها تتضمن عدلا ،وإنصافا، ومساواة ، وما هي في حقيقة أمرها سوى أهواء ضالة مرجعيتها غير مرجعيتنا الإسلامية ، وهي محض ضلال مبين يعاني منه الويلات من يعتمدونها منهجا في حياتهم .
وكل من رضي بشيء من هذا الضلال المستورد والمسوق إعلاميا في مجتمعنا المسلم ، فعليه أن يعد نفسه للمساءلة أمام ربه سبحانه وتعالى ساعة لقائه ، وساعة عرضه عليه ، وأنى له بجواب وقد لقيه ولا حجة معه سوى هوى أضله ، ويومئذ يندم شديد الندم ، ويتحسر أشد الحسرة ، ولات حين مندم وحسرة .
اللهم ارزقنا الاستمساك بما أوحيت به إلى رسولك عليه الصلاة والسلام ، وثبتنا على ذلك حتى نلقاك عليه لا مبدّلين ولا مغيّرين ولا فاتنين ولا مفتونين . اللهم بصّر الغافلين منا بغفلتهم ، ونوّر بصائرهم بهديك ، وحُل بينهم وبين الدعاة إلى السبل المتفرقة عن سبيلك . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1078