الحب المفقود

لعل اهتمام الفرد بحب الآخرين له، ينبثق من الدافع الاجتماعي، الذي يؤكد رغبة الإنسان بأن يكون مقبولاً من المحيط الذي يعيش فيه.

ويزداد هذا الاهتمام عندما يَمنح الفردُ الآخرين حبَّه وتقديره، فهو ينتظر منهم أن يقابلوا حُبّه بحبّ، وتقديرَه بتقدير.

أما الحب في الله، فهو ذو مرتبة رفيعة لا ينالها إلا المُخلصون، لأن مَن يحبك في الله يزداد حبه لك كلما رأى منك ما يرضي الله تعالى. ومن هنا جاءت الأحاديث النبوية في فضل هذا الحب.

روى الترمذي – وقال: حديث حسن صحيح – عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي، لهم منابر من نور، يغبطهم النبيّون والشهداء".

الحب في الله عاطفة فياضة، نشطة، هادفة... وخطاب روحي، ورسالة قلبيّة حارة... ولا يصعب على صاحب قلب أن يلحظه في العيون والبسمات والكلمات.

دلائل الحب لا تخفى على أحد         كحامل المسك لا يخلو من العَبَقِ

وعندما تجيش العواطف تعبّر عن نفسها بطرائق أكثر وضوحاً!.

هل يمكن تعليل إعراض بعض الشباب عن الدعوة، بشُحّ العواطف التي تفيض عليهم من إخوانهم؟! فكل شاب في حاجة ملحّة إلى قلب وحنان ورحمة... مما يفتقده المجتمع الذي يعيش فيه.

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: "يا معاذ والله إني لأحبُّك...". حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي.

وتأمّلْ عبارات التوكيد التي عبّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن شدّة حبه: يأخذ بيده، ويناديه باسمه، ويُقسم باللّه، ثم يؤكد الكلام بـ"إن" وباللام...

إنها مشاعر الحب الجياشة، وإنه الجمال في التعبير وفي الصلة.

وما أحوج الداعية اليوم أن يجذب أخاه إلى قلبه بعاطفةٍ حلوة من الحب الذي سرعان ما يفجّر ينابيع القلب، ويُطْلق مسجون العواطف، ويلهب المشاعر، ويوقظ مَوَات الحواس!!!.

وأنت حينما تحب أخاك لا تحبه لنفسك، إنما تحبه لله، فيفيض هذا الحب قوة ونماء في الصف المسلم. وقد سئل الإمام البنّا رحمه الله: هل أنت غني؟ قال: نعم. أنا غني بهذه القلوب التي تحابّت معي في الله.

روى الترمذي وابن حبان في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب رجلاً مسلماً من البدو اسمه "زاهر"، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل. فقال: أرسلْني، مَن هذا؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه...

هل منّا، ممن هو في عمر الرسول صلى الله عليه وسلم آنذاك، مَن يفعل ذلك؟ وهل نتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة؟ إن هذه الدعابة من رسول الله لم تنقص قدره، لكنها أثْرت مشاعر الحب المتأصل في نفوس الصحابة تجاه رسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم.

ونجد كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتم مشاعره بالتعبير عن شدة فرحه عندما عاد جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فقال: "والله لا أدري بأيّهما أنا أشد فرحاً؟ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!".

وهذه مقارنة عظيمة. قد يَستغربها مَن لا يشعر بقيمة الحب في الله: بين فتحٍ فَتَحَه الله على المسلمين بكل ما فيه من معانٍ دينية وسياسية... وبين لقائه صلى الله عليه وسلم مع جعفر!!. أفرْحةُ هذا اللقاء تعادل فرحة نصر وفتح؟!. نعم إنها لكذلك!.

وقد مرت على كل منا فترة من حياته كان الحب فيها هو السيّد، وكان الأخ لا يطيق فراق إخوته عنه يوماً، بل ساعات... فلا بدّ من الاتصال والاطمئنان واللقاء، ثم يكون الوداع مقروناً بموعد اللقاء القادم، وهكذا...

وفي تلك الأوقات كانت الدعوة في أوج عطائها وتقدمها وقوتها، لأنها تستمد من قوة الحب والإخاء قوة الاستمرار والبناء.

إن الشعور بالحب والثقة بين الإخوان يجعلهم يَنْشُدون المثالية في التعامل: إيثاراً وصفاءً وسماحة. وإن نضوب هذا الشعور يولّد حساسية مرهفة نحو أدنى تقصير يراه الأخ من أخيه، ولو كان هذا التقصير عفوياً، أو كان موهوماً. وإذا حصل الخلاف فسوء الظن، والامتناع عن قبول العذر، أو الامتناع عن الاعتذار، ثم التهاون في هتك الأستار، وفضح الأسرار، وتلقّي أخبار السوء من غير توثيق، والترخّص في الغيبة والنميمة.

إنه لا شيء يعوّض عن الحب في الله، ولا شيء يقوي الصف مثل الحب في الله، ولا شيء يرفع مقام العبد عند ربه كالحب في الله...

روى النسائي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من عباد الله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم عند الله تعالى. قيل: مَن هم، لعلنا نحبهم؟ قال: هم قوم تحابُّوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب. وجوههم نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون)".

وسوم: العدد 1078