قراءة في حديث (البر والإثم)
د.عثمان قدري مكانسي
عن وابصة بن معبد الأسدي قال:رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أريدُ أن لا أدعَ شيئًا من البرِّ والإثمِ إلَّا سألتُ عنه
فقال لي ادْنُ يا وابِصةُ
فدنوْتُ منه حتَّى مسَّت رُكبتي رُكبتَه
فقال لي يا وابصةُ أخبِرُك عمَّا جئتَ تسألُ عنه؟
قلتُ يا رسولَ اللهِ أخبِرْني قال جئتَ تسألُ عن البرِّ والإثمِ .
قلتُ نعم .
فجمع أصابعَه الثَّلاثَ فجعل ينكُتُ بها في صدري ويقولُ يا وابصةُ استفْتِ قلبَك .
والبرُّ ما اطمأنَّت إليه النَّفسُ واطمأنَّ إليه القلبُ.
والإثمُ ما حاك في القلبِ وتردَّدُ في الصَّدرِ وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوْك
من الترغيب والترهيب للمنذريّ - الصفحة أو الرقم: 3/23 خلاصة حكم المحدث: إسناده حسن
من فوائد هذا الحديث :
1- الراوي رضي الله عنه له صحبة روى بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وسكن الكوفة ثم انتقل إلى الرقّة ومات فيها .
2- حرص الصحابة الكرام أن يتعلّموا ويُعلِّموا وهذا دأب المسلم ،فهو داعية وصاحب رسالة.
3- من جمال هذا الدين انْ سخّرَ الرجالَ يسألون صاحبَ الرسالة عن كل شيء ، فهذا يسأل عن البرّ والإثم وذاك يسأل عن الخير ليعمل به والآخرُ يسأل عن الشر ليتجنّبه ، وهذا يسأل عن مكارم الأخلاق و... وبهذا يجتمع الدين في قلوب الرجال وأعمالهم ثم ينشرون هذا العلم بين السلف ليصل إلى الخلف ثم إلى العالم أجمعه فيكون نبراساً يضيء حياة البشريّة.
4- من علائم قوة الشخصية وروعة أسرها أنها لا تسأل عما في نفس الآخرين إنما تخبرهم بما في نفوسهم أكان هذا الخبر صحيحاً تماماً كما نراه عند النبي صلى الله عليه وسلم .. أم كان قريباً مما في نفوسهم.وهذا يُمكّن المكانة في نفوس الأتباعويثبتها ، ويقربهم إلى القائد.( فقال لي يا وابصةُ أخبِرُك عمَّا جئتَ تسألُ عنه؟) وهذا السؤال مقصود منه تثبيت العلاقة الروحية بين الطرفين .. ثم يخبره بما في نفسه فيقول : نعم.
5- يظهر الاهتمام بالشيء على وجوه أصحابه وفي عيونهم لأنه يعتمل في قلوبهم فتترجم الأعضاء ذلك الاهتمام ، وينشغلون به ، وتراهم مشدودين إلى من يمكن أن يساعدهم ويحمل عنهم أو يرتاحون إليه .وكثيراً ما نجد المرء بهذه الصفة فتسأله : ما بك يا رجل؟ فإن أنس إليك فرّغ ما في جَعبته.
6- القائد الربّاني يلحظ جنوده كبيرهم وصغيرهم ، قريبهم وبعيدهم، ويدنيهم إليه يكتسب قلوبهم وثقتهم (فقال لي ادْنُ يا وابِصةُ ) وهذا من علامة النجابة في القائد وقد يصل الذكاء فيه إلى ان يقرأ ما في نفس الآخرين،ويزيد الأمر هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه .وهذا أيضاً من علائم نبوّته صلى الله عليه وسلم.
7- دنوُّ التابع – التلميذ من أستاذه أو متبوعه حبيبٌ إلى نفسه فهو يترجم اهتمام القائد بأمر الجندي فيزداد تعلق الأخير به، وهذا من التربية النبوية الرائعة ، صلى الله على المعلّم الأول. ( فدنوْتُ منه حتَّى مسَّت رُكبتي رُكبتَه) وهذا التصوير يصف عمق أثر اهتمام القائد في تابعه وسعادة جنديّه بذلك القرب.
8- لمس الصدر – محل القلب – يوحي بأن القلب هو الأساس في التفكير واتخاذ القرار . وضرب الصدر ضربة خفيفة تمهيدٌ يستجمع تفكير المتلقّي للكلام فلا يضيّع منه شيئاً
9- قبل الجواب نجد قاعدة ذهبية في معرفة طريق الحق ، إن القلب الذي يدُقّ ناحيته النبيُّ صلى الله عليه وسلم قادر على أن يوصلك إلى ما تريد من الصواب ( استفتِ قلبك) وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك ،فالقلب السليم لا يتصرف إلا تصرفاً أبيضَ ناصعاً لا يخجل منه صاحبه بل يفخر أن يُظهره للقريب والبعيد ،
10- إن الاطمئنان إلى الأمر يجعلك تظهره غير هياب ولا وجل ، وهو البرُّ بعينه . أما التردد في إظهاره والخوف من تبعاته فهو الإثم ذاته، ولكنْ شرط أن يكون القلبُ سليماً معافىً والصدر طاهراً ، وان تكون راغباً حقاً في الوصول إلى الحق.
11- وتدبّرْ هذه الكلمات المعبّرة الواردة في الحديث الشريف المنتقاة بدقّة ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرُ من نطق بالضاد وتكلّم فأجاد:
أ- الاطمئنان : الراحة والأمان
ب-الحياكة : معالجة الفكرة في القلب والصدر وخشية إظهارها .
ت-تردد: يدل على عدم الثقة في إظهار الامر والخوف من الانكشاف .
ث-تكرار (أفتاك ، أفتوك) فالقناعة إنما تبنى في القلب أولاً ، أما أقوال الناس وحكمهم فمبني على ما تقدم لهم من قرائن قد تكون تامة أو ناقصة ، صحيحة أو غير ذلك.