هاروت وماروت عليهما السلام

عبد الرحيم بن أسعد

الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر، ثم اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، لقد قال الله تعالى "وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"-البقرة102-، وقال الله تعالى "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"-البقرة259-، وبعد: إن الله تعالى أيد نبيين وهما حزقيل ودانيال عليهما السلام من بني إسرائيل بالملكين هاروت وماروت عليهما السلام لقوله تعالى ’’وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُر‘‘، وذلك قبل أن ينتصر بنو إسرائيل على المجوس في بابل وجوارها، وكان المجوس قد استعبدوا بني إسرائيل ودمروا بيت المقدس بعد الفساد الثاني لبني إسرائيل وإضاعتهم التوراة والزبور، وكان النبيان عليهما السلام يصفان للناس بما يخبرهما هاروت وماروت عليهما السلام كيف يعرفون سحر المجوس ليبطلوه لكي ينتصروا عليهم بإذن الله تعالى، ولم ينزل الله تعالى على سليمان عليه السلام والملكين عليهما السلام سحر، وأكبر صفة للسحر أنه تخييل، يكون عاقبته التفريق بين الزوجين، وكان النبيان يأمران الناس بالإيمان وينهيان عن تعلم السحر لأنه كفر، لكن الكفار أبوا إلا أن يتعلموا السحر من الحزبين وهما حزب شياطين مملكة سليمان وحزب شياطين مملكة بابل، فهاروت معناها عبد الجبار أي جبريل عليه السلام، وماروت معناها عبد الرزاق أي ميكائيل عليه السلام، لقول الله تعالى ’’أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ‘‘(التوبة:109) وقول الله تعالى ’’وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ‘‘(يوسف:65)، ويؤيد هذا التأويل ما أورده ابن كثير رحمه الله في تفسيره وهو (وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حُدّثت عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ مُوسَى، أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ عَطِيَّةَ {وَمَا أُنزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ السِّحْرَ. حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا يَعْلَى -يَعْنِي ابْنَ أَسَدٍ-حَدَّثَنَا بَكْرٌ -يَعْنِي ابْنَ مُصْعَبٍ-حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبْزَى كَانَ يَقْرَؤُهَا: "وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ")، وقَالَ اسحاق نا روح نا ثابت ابن عمارة عَنِ القاسم بْن مُسْلِم اليشكري عن ابن عباس "(أنزل على الملكين) جبريل وميكاءيل ببابل يُقَالُ هاروت وماروت يعلمان السحر" التاريخ الكبير للبخاري، وفي شرح السنة للبغوي (وعَلى هَذَا امتحان اللَّه أنبياءه، ابْتُلِيَ يُوسُف بِالرّقِّ، ودانيال صلى اللَّه عَلَيْهِمَا حِين سباه بخْتنصر)، عن أبي إدريسَ في قِصَّةِ سَوسَنَ قال: كان دانيالُ عَلَيه السَّلامُ أوَّلَ مَن فرَّقَ بَينَ الشُّهودِ، فقالَ لأحَدِهِما: ما الَّذِى رأيتَ؟ وما الَّذِى شَهِدتَهُ؟ قال: أشهَدُ أنِّى رأيتُ سَوسَنَ تَزنِى في البُستانِ برَجُلٍ شابٍّ. قال: في أىِّ مَكانٍ؟ قال: تَحتَ شَجَرَةِ الكُمَّثرَى. ثُمَّ دَعا بالآخَرِ فقالَ: ؛ تَشهَدُ؟ قال: أشهَدُ أنِّى أبصرتُ سَوسَنَ تَزنِى في البُستانِ تَحتَ شَجَرَةِ التُّفّاحِ. قال فدَعا اللهَ عَلَيهِما، فجاءَت مِنَ السَّماءِ نارٌ فأحرَقَتهُما، وأَبرَأ اللهُ سَوسَنَ، السنن الكبرى للبيهقي، وحَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، يَقُولُ: "إِنَّ حِزْقِيلَ كَانَ فِي مَا سَبَى بُخْتُنَصَّرَ مَعَ دَانْيَالَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني، وإن الملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام أنزلهما الله عز وجل على حزقيل ودانيال عليهما السلام، لأن عزيرا عليه السلام الذي كان يحفظ التوراة غيبا أو كان قد دفنها في مكان لا يعلمه غيره حينما جاء الملك بختنصر ليهدم المسجد الأقصى، ثم بعدما أحياه الله تعالى لم يعرفه إلا جاريته بعد أن دعى الله تعالى لها بأن تبصر فأبصرت، وعرفه أيضا أولاده وقومه بعد أن نسخ لهم التوراة فكانوا يعلمون إما أنه يحفظها عن ظهر قلب أو أنها كانت عنده فدفنها، ويقال إن هذه القرية كانت من قرى بيت المقدس وكان الزمان هو زمان الخراب الثاني لبيت المقدس من بعد نزول التوراة، وكان عزير يعلم أن القرية وبيت المقدس ستعمر مرة الأخرى لأن ذلك مذكور في التوراة كما بين الله تعالى ذلك في أوائل سورة الإسراء، كما أن عزيرا كان يعلم أن الله تعالى على كل شيء قدير، كما ذكر الله في الآية، لكنه كان يطمع من الله تعالى أن يريه كيفية إعادة إعمار القرية وإعمار بيت المقدس بعد الخراب الثاني، فأجابه الله تعالى إلى أفضل من ذلك، فأراه إحياء الحمار بعد موته وأراه عدم تغير الطعام بعد مائة عام، وكذلك أراه بيت المقدس والقرية بعد عمارتها واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد انتصارهم على المجوس الذين استعبدوهم في بابل وما حولها، وكانت تلك العمارة بعد زمن سليمان عليه السلام بكثير وقبل زمن زكريا ويحيي وعيسى عليهم السلام جميعا، والخراب الأول لبيت المقدس المذكور في التوراة انتهى في مكث النبي الذي اسمه ذو الكفل عليه السلام والقائد طالوت رضي الله عنه كما ذكر الله تعالى في الآيات رقم 246-250 من سورة البقرة، ودليل ذلك التالي: (فرجع عزير إِلَى أهله وَقَدْ هلكوا وبيعت داره وبنيت فردت عَلَيْه وانتسب عزير إلى أولاده فعرفوه وعرفهم وأعطي عزير العلم «من بعد ما بعث بعد مائة عام») تفسير مقاتل بن سليمان، (عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا أَحْيَا اللَّهُ تَعَالَى عُزَيْرًا بَعْدَ مَا أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ رَكِبَ حِمَارَهُ حَتَّى أَتَى مَحَلَّتَهُ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ وَأَنْكَرَ النَّاسَ وَمَنَازِلَهُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَهْمٍ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ فَإِذَا هُوَ بِعَجُوزٍ عَمْيَاءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أَتَى عَلَيْهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً كَانَتْ عَرَفَتْهُ وَعَقَلَتْهُ فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ: يَا هَذِهِ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ هَذَا مَنْزِلُ عُزَيْرٍ وَبَكَتْ وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ كَذَا وَكَذَا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ، قَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَإِنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْنَاهُ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ لَمْ نَسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ قَالَ: فَإِنِّي أَنَا عُزَيْرٌ كَانَ اللَّهُ أَمَاتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي، قَالَتْ: فَإِنَّ عُزَيْرًا كَانَ رَجُلًا مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ وَيَدْعُو لِلْمَرِيضِ وَلِصَاحِبِ الْبَلَاءِ بِالْعَافِيَةِ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرُدَّ لِي بَصَرِي حَتَّى أَرَاكَ فَإِنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ، فَدَعَا رَبَّهُ وَمَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى عَيْنَيْهَا فَصَحَّتَا وَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَالَ: قُومِي بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَطْلَقَ اللَّهُ رِجْلَيْهَا فَقَامَتْ صَحِيحَةً، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ فَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عُزَيْرٌ، فَانْطَلَقَتْ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَابْنٌ لِعُزَيْرٍ شَيْخٌ كَبِيرٌ ابْنُ مائة سنة وثمانية عَشْرَةَ سَنَةً وَبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ فِي الْمَجْلِسِ، فَنَادَتْ هَذَا عُزَيْرٌ قَدْ جَاءَكُمْ، فَكَذَّبُوهَا، فَقَالَتْ: أَنَا فُلَانَةٌ مَوْلَاتُكُمْ دَعَا لِي رَبَّهُ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وَأَطْلَقَ رَجْلِي وَزَعَمَ أَنَّ اللَّهَ كَانَ أَمَاتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَنَهَضَ النَّاسُ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ فَقَالَ وَلَدُهُ: كَانَ لِأَبِي شَامَةٌ سَوْدَاءُ مِثْلُ الْهِلَالِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُزَيْر) تفسير البغوي، (قال الكلبيُّ: «لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً، ليجدِّد لهم التوراة، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام، يقال: أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه، فمثلت التوراة في صدره، فلمَّا أتاهُم وقال: أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا: إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم، ثمَّ إنَّ رجلاً قال: إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير، فلم يغادر حرفاً، فقالوا: إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه، فقالوا: عُزيرٌ ابنُ الله») اللباب في علوم الكتاب، والله أعلم، فسبحان الله رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 1081