( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )
حديث الجمعة :
في القرآن الكريم كثيرة هي الوعود التي وعد بها الله تعالى رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وكذا عباده المؤمنين ، وهي وعود بعضها تحقق أو يتحقق في الحياة الدنيا ، والبعض الآخر يتحقق في الآخرة . أما ما وعد به الله تعالى رسله الكرام في الحياة الدنيا ، فقد تحقق بالفعل كما سجل ذلك القرآن الكريم باعتباره الرسالة الخاتمة التي دونت أخبار الأمم السابقة كي تطلع عليها الأمم اللاحقة إلى قيام الساعة .
وأما وعد به الله تعالى عباده المؤمنين السابقين على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا فقد تحقق أيضا ، وسجله القرآن الكريم كذلك، بينما بقي ما وعد به الله تعالى عباده المؤمنين إلى قيام الساعة ، وهذا الموعود قد تحقق منه ما مضى بعد انقطاع الوحي ، وقد سجله التاريخ ، ولازال للموعود الإلهي بقية سواء في أيام الناس هذه ، وسيظل كذلك في مستقبل الأيام إلى آخر يوم من هذه الحياة الدنيا .
ومما وعد به الله تعالى عباده المؤمنين حيثما وجدوا زمانا ومكانا إلى قيام الساعة النصر . والنصر له دلالات في اللسان العربي ، فهو يدل على النجدة ، وعلى العون ، وعلى المدد ، وعلى الفوز ، وعلى الظفر ، وعلى التأييد ، وعلى الحمية ، وعلى الدعم ، وعلى الإغاثة ، وعلى الإيواء ...ومن هذه الدلالات ما ورد في كتاب الله عز وجل ، ونذكر منه على سبيل المثال قوله تعالى : (( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره )) ، وقوله تعالى : (( وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم )) ، وقوله تعالى : (( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )) . ويتبين من خلال هذه الدلالات أن النصر له أشكال وأساليب تفضي كلها في نهاية المطاف إلى ترجيح كفة المؤمنين على كفة أعدائهم الذين يحاربونهم .
وإذا كان الله تعالى قد قص علينا أخبار النصر الذي كتبه للفئة المؤمنة زمن نزول الوحي ، فإن وعده بنصر المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان لا يمكن أن يتخلف إلى قيام الساعة ، لأن العبرة بعموم لفظ الوحي، لا بخصوص أسباب نزوله ، وعليه فكل ما وعدت به الفئة المؤمنة زمن نزول الوحي ، هو متاح لكل الفئات المؤمنة إلى قيام الساعة، إن هي استقامت على صراط ربها المستقيم .
ولقد جعل الله تعالى وعد النصر مشتركا بين الصفوة من رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وبين عباده المؤمنين مصداقا لقوله تعالى : (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )) ، ولقد جاء الوعد الإلهي بالنصر في هذه الآية الكريمة بصيغة تدل على الاستقبال، على الدوام مع التوكيد (( إنا لننصر)) ، الشيء الذي يعني سريان مفعول هذا النصر إلى قيام الساعة ، وهو نصر في الدارين الأولى، والآخرة .
وإذا كان نصر الآخرة الذي ستشهده الملائكة والرسل والأنبياء عبارة عن جزاء عظيم ، وهو الخلد في جنة النعيم مقابل خلد أعدائهم الكافرين والمنافقين في الجحيم ، فإن نصر الدنيا معلوم له أساليبه وأشكاله ،كما ذكر ذلك الله تعالى في محكم التنزيل ، وأمرها بيده عز وجل حسب ما تقتضيه أحوال الناس ، وظروف الزمان والمكان إلى قيام الساعة . ويعتبر هذا الوعد الإلهي الناجز بالنصر في الدنيا حافزا للمؤمنين من أجل الجد في طلبه حيث يجب أن يُطلب كما يريد الله عز وجل في مثل قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم )) ،والمطلوب من المؤمنين في قوله تعالى هو إقامة دين الله عز وجل في الأرض على الوجه الذي يريده منهم ، وهذا لا يعني أن الله تعالى يحتاج أن يُنصر وهو رب العالمين القاهر فوق عباده، بل يُنصر دينه الذي تستقيم به حياة البشر ، وتقام بينهم عدالته سبحانه وتعالى . ولقد جاء وعد الله بنصر عباده المؤمنين مشروطا بنصر دينه كما في قوله تعالى : (( ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )) ، ففي هاتين الآيتين الكريمتين يتضح شرط الوعد الإلهي بنصر عباده المؤمنين ، وهو إقامة دينه بما يقتضيه من قيام بالعبادات ، وذكر منها الله تعالى الصلاة والزكاة ، وهذا لا يعني الاستغناء عن غيرها من العبادات بل ذكر اثنتين منها يراد به جميعها ، كما ذكر القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحت هذه الفريضة تندرج كل المعاملات أفعالا وأقوالا. وواضح من هذا الشرط الإلهي بالنصر والتمكين لعباده المؤمنين أنهما لا يتحققان دون ثمن أو جهد يبذل لإقامة دينه في الأرض.
وقد يسأل المؤمنون ربهم النصر بإلحاح وتضرع دون أن يكون منهم وفاء بالشرط المطلوب لحصوله، كأن يكون التفريط منهم في إقامة العبادات على الوجه الأكمل ، و التفريط في القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جاء في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء ، يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب له ؟ "
ومن الغريب أن يستعجل بعض المؤمنين نصر الله تعالى دون الوفاء بشرطه ، ويتحسرون على تأخره دون أن يتهموا أنفسهم بالتفريط في الوفاء بالشرط ، ودون أن يخضعوا للتمحيص مع وفائهم بالشرط مصداقا لقوله تعالى : (( أم حسبتهم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب )) ، فإذا كان الله تعالى قد محص رسوله المعصوم ، ومن كانوا معهم من صالح المؤمنين الذين رضي عنهم ، ومن كانوا قبلهم من المؤمنين بمس البأساء والضراء والشدائد المزلزلة ، فلا يمكن لمن كان دونهم من المؤمنين ألا يخضعوا لهذا التمحيص الإلهي . ولقد جعل الله تعالى نصره قريبا ، ولكن قربه مشروط بوفاء المؤمنين بشرطه ، وبنجاحهم في الابتلاء .
ومتى ما رام المؤمنون نصر الله القريب في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ، فعلهم أن يعجلوا بالوفاء بشرطه ، وهو إقامة دين الله عز وجل على الوجه الأكمل ، ثم الصبر على التمحيص الإلهي الذي قوامه أو سنته أو قانونه قول الله تعالى : (( ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )) ، فصدق الإيمان بالله تعالى رهين بالنجاح في الابتلاء بالفتن ، وهو سنة الله تعالى في خلقه .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بشرط الفوز بنصر الله تعالى في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ،خصوصا ونحن نتابع ما يحدث في أرض فلسطين ، وتحديدا في قطاع غزة منها إذا يتعرض الشعب الفلسطيني الأعزل هناك إلى جرائم إبادة جماعية فظيعة ، والمجاهدون من أبنائه مرابطون يواجهون أعتى قوة عسكرية بصبر، وثبات ،وصمود ، والله تعالى معهم ، وقد ظهرت لكل المؤمنين في العالم علامات نصر الله تعالى لهم ، وذلك بما ينالونه من عدوهم ، وقد خاب سعيه ، وهو يتجرع مرارة الهزائم المتتالية على أيديهم يوميا ، فينتقم من المواطنين العزل ليوهم الداخل الصهيوني بتحقيق انتصارات وهمية .
وما حاز المرابطون ذلك النصر المبين الذي لا غبار عليه إلا بثمنه ، ونحسبهم مؤمنين صادقين ، ولا نزكيهم على الله عز وجل ، وهو أعلم بهم .
ولا بد من تنبيه البعض ممن يشككون في صدق جهادهم ، ويجارون أعداءهم بوصفهم بما لا يليق بهم من إجرام وإرهاب أن ذلك من الخذلان الذي نهى عنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في قوله : " المسلم أخ المسلم لا يخونه ، ولا يكذبه ، ولا يخذله ، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه ، التقوى هاهنا بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ".
وعلى من ينتقدون المجاهدين دفاعا عن وطنهم في فلسطين ، ويحملونهم مسؤولية سقوط مئات الضحايا من أبناء شعبهم أن يشتغلوا خيرا لهم بإدانة أنفسهم ، ويسائلونها عن ماذا قدموا للأخوة الإسلامية في فلسطين كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليهم ألا يقعوا في الخيانة والخذلان وهم يعلمون أو وهم مصرون على ذلك ، وليتذكروا أنهم سيعرضون على الله عز وجل يوم البعث ،وسيسألون ، ويحاسبون ، وسيندمون على تفريطهم فيما أمر به الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من نصرة إخوانهم المستضعفين ، ولات حين مندم.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نخذل أو نخون عبادك المؤمنين المجاهدين في سبيلك بقول أو بفعل . ونسألك أن تغفر لنا تقصيرنا في حقهم وقد حيل بيننا وبينهم وإليك المشتكى والمفزع .
اللهم انصرهم نصرك المبين ، واربط على قلوبهم ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك وعونك ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ولا تجعل لأعدائهم عليهم سلطانا ، وما النصر إلا من عندك سبحانك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1082