( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم )

حديث الجمعة : 

من لطف الله عز وجل بعباده المؤمنين، أنه بقدر ما دلّهم على ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم ،  فقد حذرهم مما يضرهم فيهما ، وجعل نجاتهم وفوزهم في تشبثهم بنعمة الإسلام والدفاع عنه ،لأن في الدفاع عنه صيانة لمصالحهم ، ولعزتهم ، واستقامة لأحوالهم، وجنيا لسابغ نعمه سبحانه عليهم .

 ومعلوم أن الاستقامة على دين الله عز وجل ،وهو صراطه المستقيم، لا ينتفع منه سبحانه و تعالى بل هم المنتفعون  ، كما أن النكوب عنه لا يضره   في شيء كما جاء في الحديث القدسي :

 ....يا عبادي  لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم ،كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد  ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".

وبناء على هذا ، فإن من ينتفع بالاستقامة على دين الله عز وجل هم العباد  المؤمنون أنفسهم ، كما أن من يتضرر بالانحراف عنه إنما هم ، لهذا رغبهم الله تعالى في الاستقامة عليه ، وحذرهم من الانحراف عنه . ومما جاء في محكم التنزيل متضمنا للترغيب في التمسك بدين الله تعالى، وللتحذير من التخلي عنه قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه  أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )) ، ففي هذه الآية الكريمة من سورة المائدة، حذر الله عز وجل عباده المؤمنين من الردة ، وهو تحذير مسبوق بتحذير سابق فيه نهي عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء  في قوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) ، ولا شك أن موالاة هؤلاء ، وهم الذين بدلوا وحرفوا ما أنزل الله تعالى على من بعث فيهم من رسل وأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين، هو مما قد يتسبب في الارتداد عن دين الإسلام بشكل أو بآخر . ولقد بيّن الله تعالى سبب التحذير من موالاتهم ، ذلك أنهم جعلوا له شركاء من خلقه كما أخبر عن ذلك في قوله جل وعلا : (( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون به قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يوفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون )) . ومعلوم أن مولاة هؤلاء أدعى إلى تسليم  بعض  ضعاف الإيمان بشيء مما  يعتقدونه أو تقليدهم فيما يكون أساسه اعتقادهم المنحرف ، فيكون ذلك شكلا من أشكال الارتداد عن دين الإسلام إما عن قصد كما كان الحال بالنسبة  لبعض المنافقين زمن نزول الوحي، حيث كانوا يسرون  مولاة البهود ، وفيهم من كان أنفسهم يريد الدخول في دينهم أو عن غير قصد كما يحدث لمن يجاريهم في أفعال  لها صلة بانحراف دينهم دون علمهم بذلك .

وردا على الذين حدثوا أنفسهم بالردة وهم يعدون مع المؤمنين أخبر الله تعالى بأنه إذا وقع منهم ذلك في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة ، فإن إرادته جل وعلا ماضية في استبدال المرتدين  بغيرهم من المؤمنين ، وجعل لهم مواصفات أوصفات  منها أنهم يحظون بحب الله عز وجل لهم لثباتهم على دينه ، ولتوحيده دون أن يلبسوا توحديهم بشرك مهما كان نوعه سواء كان من قبيل شرك أهل الكتاب  كما ذكر سبحانه وتعالى .

 ولقد وردت آيات في الذكر الحكيم فيها إشارة إلى حب الله تعالى لعباده المؤمنين نذكر منها قوله عز من قائل : (( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله  صفا كأنهم بنيان مرصوص )) ، فضلا عن حبه لهم بسبب أعمال أخرى .

 ومن صفاتهم أيضا أنهم يبادلون الله تعالى المحبة بالمحبة ، وحبهم له يتجلى في استقامتهم على صراطه المستقيم ، وقد اشترط  أن يكون دليل محبتهم له اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في قوله تعالى : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)).

 ومن صفاتهم أيضا أنهم يلين جانبهم للمؤمنين من شدة الرحمة بهم، ويوطّئون لهم أكنافهم ، ويحرصون على عونهم وخدمتهم وصيانة كرامتهم ، ونصرهم إذا وجبت نصرتهم ... وفي المقابل يظهرون العزة للكافرين، والعزة يلازمها إظهار القوة والشدة متى ما بدر منهم ما يدل على استهداف المؤمنين بسوء مهما كان نوع  هذا الاستهداف .

ومن صفاتهم أيضا  أنهم يجاهدون في سبيل الله ، وهو الانتصار لدينه وصيانة لبيضته ، وهم يفعلون ذلك لا يبالون بمن يلومهم  فيه مهما كان اللائمون ، ومهما كانت طبيعة  اللوم . ولقد امتن الله تعالى على هؤلاء العباد إذ جعل تلك الصفات من فضله عليهم ، وهو الفضل التي يؤتيه من يشاء .

وإذا كان هذا الخطاب القرآني موجها للمؤمنين الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء منهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر من المنافقين  أو الذين كانوا مترددين في إيمانهم ، وهو سبب النزول  كما جاء في كتب التفسير ، فإنه سيبقى خطابا موجها إلى المؤمنين حتى تقوم الساعة، لأن العبرة بعموم ألفاظ كلام الله ، لا بخصوص أسباب نزوله .

ويمكن لكل مؤمن في كل زمان أو مكان أن يعرض نفسه على سلم الصفات التي وصف بها الله عز وجل من يأتي بهم  من عباده المؤمنين حين تقع الردة ممن كانوا قبلهم . ولقد سجل التاريخ أنه من فضل الله عز وجل ، وهو واسع الفضل أن جاء بمؤمنين بعد الردة  التي حصلت عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان من فضله أن بعض من ارتدوا حسن إسلامهم وحازوا الخصال الذي وصف بها الله تعالى من يحبهم من عبادة .

 و لقد توالى عبر العصور بعد البعثة النبوية وجود مؤمنين نفس الخصال  في  مختلف أقطار المعمور ، ولا زال هذا دأب من يحبهم الله تعالى ويحبونه، وهم إذلة على المؤمنين وأعز على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله لا يخشون لومة لائم ، وسيبقون كذلك تتوالى أجيالهم جبلا بعد جيل إلى قيام الساعة .

مناسبة حديث هذه الجمعة، هو تذكير المؤمنين بما وعد به الله  تعالى ، ووعده ناجز، وهو أنه كلما  تقاعس المؤمنون عن إقامة دينه على الوجه الذي ارتضاه لهم ، مما لا ينقض أو يتعارض مع إرادته مهما كان نوع هذا التعارض سواء كان  من جنس الردة أو غيرها  ، فإنه يأتي عوضا عنهم بمن تتوفر فيهم صفات حبه سبحانه وتعالى لهم ، وحبهم له ، وذلتهم على المؤمنين ، وعزتهم على الكافرين ، وجهادهم في سبيله دون الخوف من لومة لائم .

وإذا ما التمسنا في زماننا هذا من تتوفر فيهم هذه الخصال ، فلن نعدم وجودهم ، ويكفي أن نشير إلى أهلنا في أرض الإسراء والمعراج بضفتها وقطاعها، ولا نزكيهم على الله عز وجل ، فهم في جهاد في سبيل الله من أجل تخليص بيت المقدس من دنس الصهاينة ، وهم لا يبالون  بمن يخالفهم ، ولا يضيرهم  ذلك ، وهم لا يخافون في ذلك لومة لائم ، وما أكثر من لاموهم ،وعاتبوهم أشد العتاب حين انتفضوا ضد احتلال غاشم  لأرضهم ، وضد حصار ظالم دام  لسنوات طويلة ، وبعضهم ممن يجب عليهم النفير وقد استنفروا، يصطفون إلى جانب المحتل يوالونه ، و يؤيدونه  بينما يعيبون المجاهدين في سبيل الله ، ومن أجل حرية وطنهم . ومعلوم علم اليقين أن الله تعالى سيأتي لا محالة بعباد له يتصفون  بنفس الصفات التي وصف بها من يحبهم ويحبونه ،فينصرونهم ولا يبالون بمن يلومهم من اللائمين ، أو بمن  قرعهم  من المقرعين ، أو خذلهم من الخاذلين ممن يجب عليهم النفير، ولم ينفروا  ، ولم ينصروا من استنصرهم من المؤمنين .، وما ذلك على الله بعزيز، لأن العزة له سبحانه ولرسوله وللمؤمنين .

اللهم اربط على قلوب المجاهدين في سبيلك ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك وعونك ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم، ولا تجعل للكافرين عليهم سبيلا.

اللهم إنا نعوذ بلطفك أن نحرم ما تفضلت به على عبادك المؤمنين من محبة منك قابلتها محبة منهم ، و نسألك أن يلين جانبنا لكل مؤمن حيثما وجد ، وأن نعز على كل كافر حيثما وجد ، وأن نجاهد في سبيلك لا نخاف لومة لائم ، وذلك فضلك الذي تؤتيه من تشاء ، يا واسع الفضل والعطاء .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1086